فصل: انتباذ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إمساك

التّعريف

1 - من معاني الإمساك في اللّغة القبض‏.‏ يقال‏:‏ أمسكته بيدي إمساكاً‏:‏ قبضته، ومن معانيه أيضاً الكفّ يقال‏:‏ أمسكت عن الأمر‏:‏ كففت عنه‏.‏

واستعمله الفقهاء أيضاً في هذين المعنيين في مواضع مختلفةٍ، لأنّ مرادهم بالإمساك في الجنايات القبض باليد‏.‏ فإذا أمسك رجل آخر فقتله الثّالث يقتل الممسك قصاصاً عند المالكيّة إذا كان الإمساك بقصد القتل، وعند غيرهم لا يقتل كما سيأتي‏.‏ ومرادهم بالإمساك في الصّيام‏:‏ الكفّ عن المفطرات والامتناع عن الأكل والشّرب والجماع، كما صرّحوا بذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الاحتباس‏:‏

2 - الاحتباس لغةً‏:‏ هو المنع من حرّيّة السّعي، ويختصّ بما يحبسه الإنسان لنفسه‏.‏ تقول‏:‏ احتبست الشّيء‏:‏ إذا اختصصته لنفسك خاصّةً‏.‏

ويطلق الاحتباس عند الفقهاء على تسليم المرأة نفسها لزوجها، كما قالوا‏:‏ إنّ النّفقة جزاء الاحتباس‏.‏ كما يطلقون الاحتباس أو الحبس على الوقف، لما فيه من منع التّصرّف فيه، وعلى هذا فالاحتباس أخصّ من الإمساك‏.‏

الحكم الإجمالي

يختلف حكم الإمساك باختلاف الموضوعات الّتي ذكر فيها‏:‏ من الصّيام، والصّيد، والطّلاق، والقصاص‏.‏

أوّلاً‏:‏ إمساك الصّيد‏:‏

3 - يطلق إمساك الصّيد على الاصطياد، وعلى إبقاء الصّيد في اليد بدلاً من إرساله، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ إمساك صيد البرّ حرام إذا كان في حالة الإحرام، أو كان في داخل حدود الحرم‏.‏ وكذلك الدّلالة والإشارة إلى الصّيد والإعانة في قتله، كما هو مبيّن في مصطلح ‏(‏إحرام‏)‏ على تفصيلٍ في ذلك‏.‏

4 - ويجوز الاصطياد بجوارح السّباع والطّير، كالكلب والفهد والبازي والشّاهين، ويشترط في الجارح أن يمسك الصّيد على صاحبه‏.‏ بشرط كونه معلّماً‏.‏

والإمساك على صاحبه شرط من شروط كون الكلب معلّماً عند الجمهور، فإنّهم صرّحوا أنّ تعليم الكلب هو أنّه إذا أرسل اتّبع الصّيد‏.‏ وإذا أخذه أمسكه على صاحبه‏.‏ ولا يأكل منه شيئاً‏.‏ حتّى لو أخذ صيداً فأكل منه لا يؤكل عند الجمهور، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا ممّا أمسكن عليكم‏}‏ إشارةً إلى أنّ حدّ تعليم الكلب وما هو في معناه هو الإمساك على صاحبه وترك الأكل منه، والكلب الّذي يأكل إنّما أمسك على نفسه لا على صاحبه، فكان فعله مضافاً إليه لا إلى المرسل فلا يجوز أكله‏.‏ واستدلّ لذلك بحديث «عديّ بن حاتمٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ فإن أكل فلا تأكل، فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسك على نفسه»‏.‏

وقال مالك وهو رواية عن أحمد‏:‏ إنّ الإمساك ليس شرطاً في تعليم الحيوان الّذي يرسل إلى الصّيد‏.‏ فالحيوان المعلّم هو الّذي إذا أرسل أطاع وإذا زجر انزجر، لأنّ التّعليم إنّما شرط حالة الاصطياد وهي حالة الاتّباع‏.‏ أمّا الإمساك على صاحبه وترك الأكل فيكونان بعد الفراغ عن الاصطياد فلا يشترطان‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏صيد‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الإمساك في الصّيام‏:‏

5 - الإمساك عن الأكل والشّرب والجماع بشرائط مخصوصةٍ هو معنى الصّيام عند الفقهاء‏.‏ وهناك إمساك لا يعدّ صوماً، لكنّه واجب في أحوالٍ منها‏:‏ ما إذا أفطر لاعتقاده أنّ اليوم من شعبان، فتبيّن أنّه من رمضان، لزمه الإمساك عن جميع المفطرات لحرمة الشّهر، وإن كان لا يحتسب إمساكه هذا صوماً‏.‏

كذلك يلزم إمساك بقيّة اليوم لكلّ من أفطر في نهار رمضان والصّوم لازم له، كالمفطر بغير عذرٍ، والمفطر يظنّ أنّ الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو ظنّ أنّ الشّمس قد غابت ولم تغب، مع وجوب القضاء عند عامّة الفقهاء‏.‏

6- أمّا من يباح له الفطر وزال عذره في نهار رمضان كما لو بلغ الصّبيّ، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، أو صحّ المريض أو أقام المسافر، أو طهرت الحائض والنّفساء، فالمالكيّة وكذا الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في روايةٍ على عدم وجوب الإمساك عليهم بقيّة يومهم‏.‏ وصرّح بعضهم باستحباب إمساكهم لحرمة الشّهر‏.‏

أمّا الحنفيّة والشّافعيّة في قولهم الثّاني والحنابلة في روايةٍ فقد صرّحوا بوجوب الإمساك عليهم بقيّة يومهم، كما إذا قامت البيّنة على رؤية هلال رمضان في أثناء النّهار‏.‏ وللفقهاء في صوم يوم الشّكّ خلاف وتفصيل، لكن المالكيّة صرّحوا بأنّه يندب الإمساك عن المفطر في يوم الشّكّ بقدر ما جرت العادة بالثّبوت فيه ليتحقّق الحال‏.‏

وللتّفصيل في هذه المسائل يرجع إلى مصطلح ‏(‏صيام‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ الإمساك في القصاص‏:‏

7 - إن أمسك شخص إنساناً وقتله آخر فلا خلاف أنّ القاتل يقتل قصاصاً‏.‏ أمّا الممسك فإن لم يعلم أنّ الجاني كان يريد القتل فلا قصاص عليه اتّفاقاً، لأنّه متسبّب والقاتل مباشر، والقاعدة الفقهيّة تقول‏:‏ ‏(‏إذا اجتمع المباشر والمتسبّب يضاف الحكم إلى المباشر‏)‏‏.‏

كذلك إذا كان الإمساك بقصد القتل بحيث لولا إمساكه له لما أدركه القاتل مع علم الممسك بأنّ الجاني قاصد قتله فقتله الثّالث فالحنفيّة والشّافعيّة على أنّه لا يقتصّ من الممسك، لتقديم المباشر على المتسبّب‏.‏

وقال مالك وهو رواية عن أحمد‏:‏ يقتصّ من الممسك لتسبّبه كما يقتصّ من القاتل لمباشرته، لأنّه لو لم يمسكه لما قدر القاتل على قتله، وبإمساكه تمكّن من قتله، فيكونان شريكين‏.‏ وروي عن أحمد أنّ من أمسك شخصاً ليقتله الطّالب يحبس الممسك حتّى يموت‏.‏ لأنّه أمسك القتيل حتّى الموت‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏قصاص‏)‏

رابعاً‏:‏ الإمساك في الطّلاق‏:‏

8 - الإمساك من صيغ الرّجعة في الطّلاق الرّجعيّ عند الجمهور ‏(‏الحنفيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏)‏ فتصحّ الرّجعة بقوله‏:‏ مسكتك أو أمسكتك بدون حاجةٍ إلى النّيّة، لأنّه ورد به الكتاب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمسكوهنّ بمعروفٍ‏}‏ يعني الرّجعة‏.‏

وقال المالكيّة وهو القول الثّاني للشّافعيّة‏:‏ إن قال‏:‏ أمسكتها، يكون مراجعاً بشرط النّيّة‏.‏ ويصير مراجعاً بالإمساك الفعليّ إذا كان بشهوةٍ عند الحنفيّة، وهو رواية عن أحمد، وكذلك عند المالكيّة إذا اقترن الإمساك بالنّيّة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لا تحصل الرّجعة بفعلٍ كوطءٍ ومقدّماته، لأنّ ذلك حرّم بالطّلاق ومقصود الرّجعة حلّه، فلا تحصل به‏.‏

أمّا الإمساك لغير شهوةٍ فليس برجعةٍ عند عامّة الفقهاء‏.‏

9- وذكر الفقهاء أنّ الطّلاق في الحيض طلاق بدعةٍ لكنّه إن حصل وقع، وتستحبّ مراجعتها عند الجمهور‏.‏ وقال مالك‏:‏ يجبر على الرّجعة، لحديث ابن عمر «مره فليراجعها ثمّ ليمسكها حتّى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر»‏.‏

فإذا راجعها وجب إمساكها عند عامّة الفقهاء حتّى تطهر من الحيض وندب إمساكها حتّى تحيض حيضةً أخرى‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏رجعة‏)‏‏.‏

إمضاء

انظر‏:‏ إجازة‏.‏

إملاك

التّعريف

1 - الإملاك هو‏:‏ التّزويج وعقد النّكاح

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - الإملاك بمعنى‏:‏ عقد النّكاح، وله مصطلح خاصّ به تذكر فيه أحكامه‏.‏

ووليمة الإملاك بمعنى وليمة العقد، فهي سنّة عند الشّافعيّة والحنابلة، والإجابة إليها سنّة عند الشّافعيّة، وهو قول ابن قدامة وغيره من الحنابلة، وقال بعض الحنابلة‏:‏ إنّها مباحة‏.‏ وهل تتعدّد مع وليمة الدّخول ‏؟‏ قال الشّافعيّة‏:‏ المعتمد أنّها واحدة‏.‏ ولم نطّلع على حكم وليمة الإملاك عند المالكيّة والحنفيّة‏.‏ ويتكلّم الفقهاء عن الإملاك في باب الوليمة من كتاب النّكاح، وتفصيله في مصطلح ‏(‏وليمة‏)‏‏.‏

أمّ

التّعريف

1 - أمّ الشّيء في اللّغة‏:‏ أصله، والأمّ‏:‏ الوالدة، والجمع أمّهات وأمّات ولكن كثر ‏(‏أمّهات‏)‏ في الآدميّات ‏(‏وأمّات‏)‏ في الحيوان‏.‏

ويقول الفقهاء‏:‏ إنّ من ولدت الإنسان فهي أمّه حقيقةً، أمّا من ولدت من ولده فهي أمّه مجازاً، وهو الجدّة، وإن علت كأمّ الأب وأمّ الأمّ‏.‏

ومن أرضعت إنساناً ولم تلده فهي أمّه من الرّضاع‏.‏

الحكم الإجمالي

للأمّ أحكام خاصّة في الفقه الإسلاميّ تفصيلها فيما يلي‏:‏

برّ الوالدين‏:‏

2 - ومن الواجب على المسلم برّ الوالدين وإن كانا فاسقين أو كافرين، ويجب طاعتهما في غير معصية اللّه تعالى، فإن كانا كافرين فليصاحبهما في الدّنيا معروفاً، ولا يطعهما في كفرٍ ولا في معصية اللّه تعالى قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحساناً‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدّنيا معروفاً‏}‏

وهي أولى من الأب بالبرّ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمّه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين‏}‏ ولأنّ«النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه من أحقّ بحسن صحابتي ‏؟‏ قال‏:‏ أمّك‏.‏ قال‏:‏ ثمّ من ‏؟‏ قال‏:‏ أمّك‏.‏ قال‏:‏ ثمّ من ‏؟‏ قال‏:‏ أمّك قال‏:‏ ثمّ من ‏؟‏ قال‏:‏ أبوك» وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال‏:‏ «سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أفضل ‏؟‏ قال‏:‏ الصّلاة لأوّل وقتها، وبرّ الوالدين»

تحريم الأمّ‏:‏

3 - أجمعوا على تحريم نكاح الأمّ النّسبيّة وإن علت على ابنها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم أمّهاتكم‏}‏ ومثلها الأمّ من الرّضاع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمّهاتكم اللّاتي أرضعنكم‏}‏‏.‏

النّظر إلى الأمّ والمسافرة بها‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على جواز النّظر إلى الأمّ، ولكن اختلفوا في محلّ جواز النّظر، فذهب الحنفيّة إلى جواز النّظر من الأمّ إلى الرّأس والوجه والصّدر والسّاق والعضدين، فلا يجوز النّظر إلى الظّهر والبطن والفخذ‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه ينظر إلى الوجه والأطراف، فلا يجوز النّظر إلى الصّدر والظّهر والثّدي والسّاق، وإن لم يلتذّ به‏.‏

والحنابلة في المعتمد عندهم كالمالكيّة إلاّ أنّهم أجازوا النّظر إلى السّاق من المحرم، وذهب الشّافعيّة والقاضي من الحنابلة إلى تحريم النّظر من المحرم إلى ما بين السّرّة والرّكبة ويحلّ ما عداه‏.‏ واتّفق الفقهاء أيضاً على أنّ هذا التّحديد في النّظر على اختلاف المذاهب مشروط بعدم النّظر بشهوةٍ، فإن كان بشهوةٍ حرم‏.‏ ويجوز للأمّ أن تسافر مع ولدها لأنّه من أقوى المحارم لها، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ ليس معها حرمة»‏.‏

النّفقة‏:‏

5 - قال ابن المنذر‏:‏ أجمع العلماء على وجوب النّفقة للوالدين اللّذين لا كسب لهما ولا مال، سواء أكان الوالدان مسلمين أو كافرين، وسواء كان الفرع ذكراً أم أنثى، لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وصاحبهما في الدّنيا معروفاً‏}‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنّ أطيب ما يأكل الرّجل من كسبه، وولده من كسبه»‏.‏ وللتّفصيل انظر ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

الحضانة‏:‏

6 - تثبت الحضانة للأمّ المسلمة اتّفاقاً ما لم يكن مانع، بل هي أولى من غيرها، وكذا الأمّ الكتابيّة - على خلافٍ وتفصيلٍ فيها - وتجب عليها الحضانة إذا تعيّنت بألاّ يكون غيرها‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ انظر مصطلح ‏(‏حضانة‏)‏‏.‏

الميراث‏:‏

7 - للأمّ في الميراث ثلاثة أحوالٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ استحقاق السّدس فرضاً، وذلك إذا كان للميّت فرع وارث، أو اثنان من الإخوة والأخوات من أيّ جهةٍ كانوا‏.‏

الثّاني‏:‏ استحقاق ثلث التّركة كلّها فرضاً، وذلك عند عدم الفرع الوارث أصلاً، وعدم اثنين فأكثر من الإخوة والأخوات‏.‏

الثّالث‏:‏ استحقاق ثلث الباقي من التّركة، وذلك في مسألتين‏:‏

أ - أن يكون الورثة زوجاً وأمّا وأباً، فللأمّ ثلث الباقي بعد فرض الزّوج، وهو يساوي هنا السّدس‏.‏

ب - أن يكون الورثة زوجةً وأمّاً وأباً، فللأمّ ثلث الباقي بعد فرض الزّوجة، وهو يساوي هنا الرّبع‏.‏ وقد سمّى الفقهاء هاتين المسألتين بالغرّاوين أو العمريّتين، لقضاء عمر رضي الله عنه فيهما بذلك‏.‏

الوصيّة‏:‏

8 - لا يدخل الوالدان والولد في الوصيّة للأقرباء، لأنّهم يرثون في كلّ حالٍ، ولا يحجبون، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا وصيّة لوارثٍ»

الولاية‏:‏

9 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا ولاية للأمّ على مال الصّغير، لأنّ الولاية ثبتت بالشّرع فلم تثبت للأمّ كولاية النّكاح، لكن يجوز أن يوصى إليها فتصير وصيّةً بالإيصاء‏.‏

وفي رأيٍ للشّافعيّة - خلاف الأصحّ - وهو قول ذكره القاضي والشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة من الحنابلة تكون لها الولاية بعد الأب والجدّ، لأنّها أكثر شفقةً على الابن‏.‏

وكذلك لا ولاية لها في النّكاح عند الجمهور لأنّ المرأة لا تملك تزويج نفسها ولا غيرها، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تزوّج المرأة المرأة ولا تزوّج المرأة نفسها»‏.‏

وعند أبي حنيفة وزفر والحسن وهو ظاهر الرّواية عن أبي يوسف أنّه تجوز ولاية الأمّ في النّكاح عند عدم العصبة‏.‏

إقامة الحدّ والتّعزير على الأمّ

10 - لا يقام حدّ السّرقة على الأمّ إذا سرقت من مال ولدها‏.‏ ولا تحدّ حدّ القذف أيضاً إذا قذفت ولدها، وخلاف الرّاجح عند المالكيّة تحدّ، وكذا لا يعزّر الوالدان لحقوق الأولاد‏.‏

القصاص‏:‏

11 - لا يقتصّ للقتيل من قبل أصوله، ومنهم الأمّ لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يقاد الوالد بولده» ومثله بقيّة الأصول، ولأنّ الأصل سبب لإحياء الفرع فمن المحال أن يستحقّ له إفناؤه‏.‏ وذهب المالكيّة إلى ما ذهب إليه جمهور العلماء، إلاّ إذا قصد الأصل إزهاق روح الفرع، كأن يرمي عنق الفرع بالسّيف، أو يضجعه ويذبحه‏.‏

شهادة الفرع للأمّ وعكسه

12 - أ - لا تقبل شهادة أحدهما للآخر عند جماهير العلماء، وبه قال شريح والحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وأبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه - وهي المذهب - وإسحاق وأبو عبيدٍ وأصحاب الرّأي‏.‏

وفي روايةٍ أخرى عن أحمد أنّ شهادة الابن لأصله مقبولة بخلاف العكس، وروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ شهادة كلٍّ منهما للآخر مقبولة وروي ذلك عن شريحٍ، وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو ثورٍ والمزنيّ وداود وإسحاق وابن المنذر‏.‏

ب - أمّا شهادة أحدهما - أي الفرع والأصل - على صاحبه فتقبل، وهو قول عامّة أهل العلم، لانتفاء التّهمة، وصرّح الشّافعيّة بأنّ محلّ قبول الشّهادة حيث لا عداوة وإلاّ لم تقبل‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏شهادة‏)‏‏.‏

إذن الأمّ لولدها في الجهاد

13 - اتّفقوا على أنّه لا يجوز الجهاد للولد في حال كونه فرض كفايةٍ إلاّ بإذن والديه إذا كانا مسلمين، «لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للرّجل الّذي استأذنه في الجهاد‏:‏ أحيّ والداك ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ففيهما فجاهد»‏.‏

تأديب الأمّ لولدها

14 - يجوز للأب والأمّ ضرب الصّغير والمجنون زجراً لهما عن سيّئ الأخلاق وإصلاحاً لهما‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ انظر مصطلح ‏(‏تعزير‏)‏

أمّ الأرامل

التّعريف

1- الأمّ لغةً الوالدة، والأرامل جمع أرملةٍ وهي الّتي مات زوجها‏.‏ ومسألة أمّ الأرامل عند الفرضيّين‏:‏ إحدى المسائل الملقّبات وهي جدّتان، وثلاثة زوجاتٍ، وأربع أخواتٍ لأمٍّ، وثماني أخواتٍ لأبوين أو لأبٍ، وتسمّى أيضاً بأمّ الفروج لأنوثة الجميع، وتسمّى أيضاً السّبعة عشريّة، لنسبتها إلى سبعة عشر، وهو عدد أسهمها‏.‏

بيان الأنصبة فيها

2 - أصل المسألة من اثني عشر ‏(‏وتعول إلى سبعة عشر‏)‏ فيكون للجدّتين السّدس، وهو اثنان، لكلّ واحدةٍ سهم، وللزّوجات الرّبع، ثلاثة، لكلّ واحدةٍ منهنّ سهم، وللأخوات لأمٍّ الثّلث، أربعة، لكلّ واحدةٍ منهنّ سهم، والثّلثان وهو ثمانية أسهمٍ للأخوات الثّماني لكلّ واحدةٍ سهم، ويفصّل الفقهاء هذه المسألة في المواريث في باب العول‏.‏

أمّ الدّماغ

التّعريف

1 - أمّ الدّماغ لغةً‏:‏ الهامة‏:‏ وقيل الجلدة الرّقيقة المشتملة على الدّماغ‏.‏

وعند الفقهاء‏:‏ الجلدة الّتي تحت العظم فوق الدّماغ، وتسمّى بأمّ الرّأس، وخريطة الدّماغ‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - الشّجّة الّتي تصل إلى أمّ الدّماغ دون أن تخرقها تسمّى آمّةً ومأمومةً، وفيها ثلث الدّية، ولا قصاص فيها عند الفقهاء، روى ابن ماجه في سننه عن العبّاس بن عبد المطّلب عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لا قود في المأمومة ولا الجائفة ولا المنقّلة»، وفي المغني‏:‏ ‏"‏ وليس فيها قصاص عند أحدٍ من أهل العلم نعلمه إلاّ ما روي عن ابن الزّبير أنّه قصّ من المأمومة فأنكر النّاس عليه، وقالوا ما سمعنا أحداً قصّ منها قبل ابن الزّبير‏.‏

3 - فإن خرقت الشّجّة أمّ الدّماغ سمّيت الدّامغة، وللفقهاء فيها عدّة آراءٍ‏.‏

منها‏:‏ أنّه يجب فيها ما يجب في الآمّة ولا يزاد لها شيء‏.‏

ومنها‏:‏ أنّه يزاد فيها حكومة بالإضافة إلى دية الآمّة‏.‏

ومنها‏:‏ أنّه يجب فيها ما يجب في النّفس إذ لا يعيش الإنسان معها غالباً‏.‏ ويفصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجنايات‏:‏ ‏(‏القصاص فيما دون النّفس، دية الأطراف والمنافع‏)‏‏.‏

4 - وبالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن إفطار الصّائم بوصول شيءٍ إلى أمّ الدّماغ، فمنهم من يرى بطلان صومه بوصول شيءٍ إلى أمّ الدّماغ، ومنهم من لا يرى بطلان صومه إلاّ إذا وصل إلى الدّماغ نفسه‏.‏

وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في كتاب الصّيام باب ‏(‏ما يفطر الصّائم‏)‏

أمّ الفروخ

التّعريف

1 - الأمّ لغةً الوالدة، والفروخ‏:‏ جمع فرخٍ، وهو ولد الطّائر، وقد استعمل في كلّ صغيرٍ من الحيوان والنّبات والشّجر وغيرها‏.‏

2 - وأمّ الفروخ عند الفرضيّين لقب لمسألةٍ من مسائل الميراث هي‏:‏ زوج، وأمّ، وأختان شقيقتان أو لأبٍ، واثنان فأكثر من أولاد الأمّ، وسمّيت بأمّ الفروخ لكثرة السّهام العائلة فيها، شبّهت بطائرٍ حولها أفراخها، وقيل‏:‏ إنّه لقب لكلّ مسألةٍ عائلةٍ إلى عشرةٍ‏.‏ ويقال لهذه المسألة أيضاً ‏(‏البلجاء‏)‏ لوضوحها لأنّها عالت بثلثيها، وهو أكثر ما تعول إليه مسألة في الفرائض، وتلقّب أيضاً ‏(‏الشّريحيّة‏)‏ لوقوعها في زمن القاضي شريحٍ‏.‏

روي أنّ رجلاً أتاه وهو قاضٍ بالبصرة فسأله عنها، فجعلها من عشرةٍ كما تقدّم، فكان الزّوج يلقى الفقيه فيستفتيه قائلاً‏:‏ رجل ماتت امرأته، ولم تترك ولداً ولا ولد ابنٍ، فيجيبه الفقيه‏:‏ له النّصف، فيقول‏:‏ واللّه ما أعطيت نصفاً ولا ثلثاً، فيقول له‏:‏ من أعطاك ذلك ‏؟‏ فيقول‏:‏ شريح، فيلقى الفقيه شريحاً فيسأله عن ذلك فيخبره الخبر، فكان شريح إذا لقي الزّوج يقول له‏:‏ إذا رأيتني ذكرت في حكماً جائراً إذا رأيتك ذكرت رجلاً فاجراً تبيّن لي فجوره، إنّك تذيع الشّكوى وتكتم الفتوى‏.‏

كيفيّة التّوريث فيها

3 - للزّوج النّصف، وللأختين لغير أمٍّ الثّلثان، وللأمّ السّدس، ولأولاد الأمّ الثّلث، ومجموع ذلك عشرة، وأصلها من ستّةٍ هذا على قول الجمهور‏.‏

ويفصّل الفقهاء هذه المسألة في باب العول من كتب الفرائض‏.‏

أمّ الكتاب

التّعريف

1 - أمّ الشّيء في اللّغة‏:‏ أصله، وأمّ الكتاب هي‏:‏ أصله‏.‏

وبهذا المعنى وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب‏}‏ أي أصله الّذي يرجع إليه عند الاشتباه، وأطلق في قوله جلّ شأنه‏:‏ ‏{‏يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب‏}‏ على اللّوح المحفوظ الّذي فيه علم اللّه تعالى‏.‏

وقد ورد في عددٍ من الأحاديث والآثار إطلاق ‏(‏أمّ الكتاب‏)‏ على سورة الفاتحة‏.‏ من ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ بأمّ الكتاب فقد أجزأت عنه» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من صلّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج»

وينظر تفصيل أحكام ‏(‏أمّ كتاب‏)‏ بالإطلاق الأخير في مصطلح ‏(‏الفاتحة، وقراءة‏)‏‏.‏

أمّ الولد

انظر‏:‏ استيلاد‏.‏

أمّهات المؤمنين

التّعريف

1 - يؤخذ من استعمال الفقهاء أنّهم يريدون ب ‏"‏ أمّهات المؤمنين ‏"‏ كلّ امرأةٍ عقد عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وإن طلّقها بعد ذلك على الرّاجح‏.‏

وعلى هذا فإنّ من عقد عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها فإنّها لا يطلق عليها لفظ ‏"‏ أمّ المؤمنين ‏"‏‏.‏

ومن دخل بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على وجه التّسرّي، لا على وجه النّكاح، لا يطلق عليها ‏"‏ أمّ المؤمنين ‏"‏ كمارية القبطيّة‏.‏

ويؤخذ ذلك من قوله تعالى في سورة الأحزاب ‏{‏وأزواجه أمّهاتهم‏}‏‏.‏

عدد أمّهات المؤمنين

2 - النّساء اللّاتي عقد عليهنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودخل بهنّ - وهنّ أمّهات المؤمنين - اثنتا عشرة امرأةً، هنّ على ترتيب دخوله بهنّ كما يلي‏:‏

- 1 - خديجة بنت خويلدٍ‏.‏

- 2 - سودة بنت زمعة، وقيل‏:‏ إنّه دخل بها بعد عائشة‏.‏

- 3 - عائشة بنت أبي بكرٍ الصّدّيق التّيميّة‏.‏

- 4 - حفصة بنت عمر بن الخطّاب العدويّة‏.‏

- 5 - زينب بنت خزيمة الهلاليّة‏.‏

- 6 - أمّ سلمة، واسمها‏:‏ هند بنت أبي أميّة بن المغيرة المخزوميّة‏.‏

- 7 - زينب بنت جحشٍ الأسديّة‏.‏

- 8 - جويرية بنت الحارث الخزاعيّة‏.‏

- 9 - ريحانة بنت زيد بن عمرٍو القرظيّة‏.‏

- 10 - أمّ حبيبة، واسمها‏:‏ رملة بنت أبي سفيان الأمويّة‏.‏

- 11 - صفيّة بنت حييّ بن أخطب النّضيريّة‏.‏

- 12 - ميمونة بنت الحارث بن حزنٍ الهلاليّة‏.‏

وتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن تسعٍ منهنّ، وهنّ‏:‏ سودة - وعائشة - وحفصة - وأمّ سلمة - وزينب بنت جحشٍ - وأمّ حبيبة - وجويرية - وصفيّة - وميمونة‏.‏ وقد وقع الخلاف بين العلماء في ‏(‏ريحانة‏)‏ فقيل‏:‏ كان دخول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بها دخول نكاحٍ، وقيل‏:‏ كان دخوله بها دخول تسرٍّ بملك اليمين، والصّحيح الأوّل‏.‏

ممّا يجب أن تتّصف به أمّهات المؤمنين

يجب أن تتّصف أمّهات المؤمنين بالصّفات التّالية‏:‏

أ - الإسلام‏:‏

3 - لم تكن واحدة من أمّهات المؤمنين كتابيّةً، بل كنّ كلّهنّ مسلماتٍ مؤمناتٍ، وذكر المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ أنّه يحرم على رسول اللّه أن يتزوّج بكتابيّةٍ، لأنّه عليه الصلاة والسلام أشرف من أن يضع نطفته في رحمٍ كافرةٍ، بل لو نكح كتابيّةً لهديت إلى الإسلام كرامةً له، لخبر «سألت ربّي ألاّ أزوّج إلاّ من كان معي في الجنّة فأعطاني»‏.‏

ب - الحرّيّة‏:‏

4 - ولم تكن واحدة منهنّ رقيقةً، بل كنّ كلّهنّ حرائر، بل ذكر المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ أنّه يحرم على رسول اللّه أن يتزوّج بأمةٍ ولو كانت مسلمةً، لأنّ نكاحها لعدم الطّول ‏(‏القدرة على زواج الحرّة‏)‏ وخوف العنت ‏(‏الزّنى‏)‏، وهو غنيّ عن الأوّل ابتداءً وانتهاءً، لأنّ له أن يتزوّج بغير مهرٍ - كما سيأتي - وعن الثّاني للعصمة الّتي عصمه اللّه تعالى بها‏.‏

ج - عدم الامتناع عن الهجرة‏:‏

5 - لقد حرّم اللّه تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من وجبت عليها الهجرة فلم تهاجر، ولو كانت مؤمنةً مسلمةً، لقوله تعالى في سورة الأحزاب‏:‏ ‏{‏يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللّاتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللّاتي هاجرن معك‏}‏‏.‏ ولما رواه التّرمذيّ وحسّنه وابن أبي حاتمٍ عن عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال‏:‏ «نهي رسول اللّه عن أصناف النّساء، إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات» ولحديث «أمّ هانئٍ قالت‏:‏ خطبني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذرٍ فعذرني، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا أحللنا لك أزواجك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية إلى قوله تعالى ‏{‏اللّاتي هاجرن معك‏}‏ قالت‏:‏ فلم أكن أحلّ له، لأنّي لم أهاجر معه، كنت من الطّلقاء»‏.‏

وقال الإمام أبو يوسف - من الحنفيّة -‏:‏ لا دلالة في الآية الكريمة على أنّ اللّاتي لم يهاجرن كنّ محرّماتٍ على الرّسول عليه الصلاة والسلام، لأنّ تخصيص الشّيء بالذّكر لا ينفي ما عداه‏.‏ ويجوز للرّسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من نساء الأنصار، قد تزوّج عليه الصلاة والسلام من غير المهاجرات صفيّة وجويرية، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي برزة رضي الله عنه قال‏:‏ «كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم يزوّجها حتّى يعلم هل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا» فلو لا علمهم بأنّه يحلّ له التّزوّج من نساء الأنصار لما كان هناك داعٍ للتّربّص والانتظار‏.‏

د - التّنزّه عن الزّنى‏:‏

6 - أمّهات المؤمنين بحكم كونهنّ زوجات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منزّهات عن الزّنى، لما في ذلك من تنفير النّاس عن الرّسول، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطّيّبات للطّيّبين والطّيّبون للطّيّبات‏}‏‏.‏ قال ابن عبّاسٍ‏:‏ ما بغت امرأة نبيٍّ قطّ، وما رميت به السّيّدة عائشة من الإفك فرية كاذبة خاطئة برّأها اللّه تعالى منها في القرآن الكريم بقوله جلّ شأنه‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرّاً لكم بل هو خير لكم، لكلّ امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم، والّذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم‏}‏‏.‏ الآيات إلى قوله ‏{‏يعظكم اللّه أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏

أحكام أمّهات المؤمنين مع الرّسول صلى الله عليه وسلم

العدل بين الزّوجات‏:‏

7 - لا حقّ لأمّهات المؤمنين في القسم في المبيت ولا في العدل بينهنّ، ولا يطالب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذلك، ويجوز له أن يفضّل من شاء منهنّ على غيرها في المبيت والكسوة والنّفقة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء، ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك‏}‏‏.‏

وأخرج ابن سعدٍ عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ قال‏:‏ «كان رسول اللّه موسّعاً عليه في قسم أزواجه يقسم بينهنّ كيف شاء»‏.‏

وعلّل ذلك بعضهم بأنّ في وجوب القسم عليه شغلاً عن لوازم الرّسالة‏.‏

وقد صرّح العلماء أنّ القسم لم يكن واجباً عليه لكنّه كان يقسم من نفسه تطييباً لقلوبهنّ‏.‏

تحريم نكاح أمّهات المؤمنين على التّأبيد

8 - ثبت ذلك بنصّ القرآن الكريم، فقال جلّ شأنه ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً، إنّ ذلكم كان عند اللّه عظيماً‏}‏‏.‏

وأمّا اللّاتي فارقهنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل الدّخول كالمستعيذة - وهي أسماء بنت النّعمان، وكالتي رأى في كشحها بياضاً - وهي عمرة بنت يزيد عندما دخل عليها، فللفقهاء في تأبيد التّحريم رأيان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّهنّ يحرمن، وهو الّذي عليه الشّافعيّ وصحّحه في الرّوضة لعموم الآية السّابقة، وذلك لأنّ المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده‏}‏ أي من بعد نكاحه‏.‏ والثّاني‏:‏ لا يحرمن‏.‏ لما روي أنّ الأشعث بن قيسٍ نكح المستعيذة في زمن عمر بن الخطّاب، فقام عمر برجمه ورجمها، فقالت له‏:‏ كيف ترجمني ولم يضرب عليّ حجاب، ولم أسمّ للمؤمنين أمّاً ‏؟‏ فكفّ عمر عن ذلك‏.‏

وفي وجوب عدّة الوفاة على أمّهات المؤمنين واستمرار حقّهنّ في النّفقة والسّكنى خلاف‏.‏

علوّ منزلتهنّ

9 - إذا عقد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ ودخل بها صارت أمّاً للمؤمنين والمؤمنات عند البعض، ورجّحه القرطبيّ بدلالة صدر الآية ‏{‏النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم‏}‏‏.‏

وعند البعض الآخر‏:‏ تصبح أمّاً للمؤمنين دون المؤمنات، ورجّحه ابن العربيّ مستدلّاً بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لها امرأة‏:‏ يا أمّه، فقالت لها عائشة‏:‏ لست لك بأمٍّ، إنّما أنا أمّ رجالكم‏.‏

دخولهنّ في آل بيت الرّسول صلى الله عليه وسلم

10 - اختلف العلماء في دخول أمّهات المؤمنين في أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فمنهم من قال‏:‏ يدخل نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أهل البيت، وبه قالت عائشة وابن عبّاسٍ وعكرمة وعروة وابن عطيّة، وابن تيميّة وغيرهم، ويستدلّ هؤلاء بما رواه الخلّال بإسناده عن ابن أبي مليكة أنّ خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة سفرةً من الصّدقة فردّتها وقالت‏:‏ إنّا آل محمّدٍ لا تحلّ لنا الصّدقة، وكان عكرمة ينادي في السّوق ‏{‏إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً‏}‏ نزلت في نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً‏.‏ وهذا القول هو الّذي يدلّ عليه سياق الآية، لأنّ ما قبلها وما بعدها خطاب لأمّهات المؤمنين‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى وأقمن الصّلاة وآتين الزّكاة وأطعن اللّه ورسوله، إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات اللّه والحكمة إنّ اللّه كان لطيفاً خبيراً‏}‏ ومنهم من قال‏:‏ لا يدخل نساء النّبيّ في آل بيت رسول اللّه، ويستدلّ هؤلاء بما رواه التّرمذيّ عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول اللّه قال‏:‏ «نزلت هذه الآية على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً‏}‏ في بيت أمّ سلمة، فدعا النّبيّ فاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساءٍ وعليّ خلف ظهره، فجلّلهم بكساءٍ ثمّ قال‏:‏ اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، قالت أمّ سلمة‏:‏ وأنا معهم يا نبيّ اللّه ‏؟‏ قال أنت على مكانك، وأنت إلى خيرٍ»‏.‏

حقوق أمّهات المؤمنين

11 - من حقّ أمّهات المؤمنين أن يحترمن ويعظّمن، ويصنّ عن الأعين والألسن، وذلك واجب على المسلمين نحوهنّ‏.‏

فإن تطاول من لا خلاق له على تناولهنّ بالقذف أو السّبّ، ففي القذف يفرّق جمهور الفقهاء بين قذف عائشة رضي الله عنها، وقذف غيرها من أمّهات المؤمنين‏.‏

فمن قذف عائشة رضي الله عنها بما برّأها اللّه تعالى منه - من الزّنى - فقد كفر، وجزاؤه القتل، وقد حكى القاضي أبو يعلى وغيره الإجماع على ذلك، لأنّ من أتى شيئاً من ذلك فقد كذّب القرآن، ومن كذّب القرآن قتل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعظكم اللّه أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏ أمّا من قذف واحدةً من أمّهات المؤمنين غير عائشة فقد اختلف العلماء في عقوبته، فقال بعضهم ومنهم ابن تيميّة‏:‏ إنّ حكم قذف واحدةٍ منهنّ كحكم قذف عائشة رضي الله عنها - أي يقتل - لأنّ فيه عاراً وغضاضةً وأذًى لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بل في ذلك قدح بدين رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنّ قذف واحدةٍ من أمّهات المؤمنين غير عائشة كقذف واحدٍ من الصّحابة رضي الله عنه، أو واحدٍ من المسلمين، أي يحدّ القاذف حدّاً واحداً لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً‏}‏ لأنّه لا يقتضي شرفهنّ زيادةً في حدّ من قذفهنّ، لأنّ شرف المنزلة لا يؤثّر في الحدود‏.‏ وقال بعضهم ومنهم مسروق بن الأجدع وسعيد بن جبيرٍ‏:‏ من قذف أمّهات المؤمنين غير عائشة يحدّ حدّين للقذف - أي يجلد مائةً وستّين جلدةً -

أمّا سبّ واحدةٍ من أمّهات المؤمنين - بغير الزّنى - من غير استحلالٍ لهذا السّبّ، فهو فسق، وحكمه حكم سبّ واحدٍ من الصّحابة رضوان الله عليهم، يعزّر فاعله‏.‏

أمّيّ

التّعريف

1- الأمّيّ‏:‏ المنسوب إلى الأمّ، ويطلق على من لا يقرأ ولا يكتب، نسب إلى الأمّ لأنّه بقي على ما ولدته عليه أمّه‏.‏ لأنّ الكتابة والقراءة مكتسبة‏.‏

صلاة الأمّيّ

2 - الأمّيّ الّذي لا يحسن قراءة الفاتحة، ويحسن قراءة آيةٍ منها ويريد الصّلاة، قال البعض‏:‏ إنّه يكرّر هذا الّذي يحسنه سبع مرّاتٍ، ليكون بمنزلة سبع آيات الفاتحة، وقال آخرون‏:‏ لا يكرّره‏.‏

وإن كان لا يحسن الفاتحة ويحسن غيرها، قرأ ما يحسنه من القرآن الكريم‏.‏

فإن كان لا يحسن شيئاً واجتهد آناء اللّيل والنّهار فلم يقدر على التّعلّم، قال أبو حنيفة وبعض المالكيّة‏:‏ يصلّي دون أن يقرأ شيئاً لا من القرآن ولا من الأذكار‏.‏ وقال الشّافعيّ وأحمد بن حنبلٍ وبعض المالكيّة‏:‏ يصلّي ويحمد اللّه تعالى ويهلّله ويكبّره بدل القراءة، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا قمت إلى الصّلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلاّ فاحمده وهلّله وكبّره»‏.‏

وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب ‏(‏الصّلاة‏)‏ عند كلامهم على القراءة في الصّلاة‏.‏

أمن

التّعريف

1 - الأمن ضدّ الخوف، وهو‏:‏ عدم توقّع مكروهٍ في الزّمان الآتي، ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - أمان‏:‏

2 - الأمان‏:‏ ضدّ الخوف، يقال‏:‏ أمّنت الأسير‏:‏ أعطيته الأمان فأمن، فهو كالأمن‏.‏

وأمّا عند الفقهاء، فله معنًى يختلف عن الأمن، إذ هو عندهم، عقد يفيد ترك القتال مع الكفّار فرداً أو جماعةً مؤقّتاً أو مؤبّداً‏.‏

ب - خوف‏:‏

3 - الخوف‏:‏ الفزع، وهو ضدّ الأمن

ج - إحصار‏:‏

4 - الإحصار‏:‏ المنع والحبس‏.‏

ويستعمله الفقهاء في منع الحاجّ بعدوٍّ ونحوه من بعض أعمالٍ معيّنةٍ في الحجّ أو العمرة، كالوقوف بعرفة والطّواف‏.‏

حاجة النّاس إلى الأمن وواجب الإمام تجاه ذلك

5 - الأمن للفرد وللمجتمع وللدّولة من أهمّ ما تقوم عليه الحياة، إذ به يطمئنّ النّاس على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويتّجه تفكيرهم إلى ما يرفع شأن مجتمعهم وينهض بأمّتهم‏.‏ ومن طبائع المجتمعات البشريّة - كما يقول ابن خلدونٍ - حدوث الاختلاف بينهم، ووقوع التّنازع الّذي يؤدّي إلى المشاحنات والحروب، وإلى الهرج وسفك الدّماء والفوضى، بل إلى الهلاك إذا خلّي بينهم وبين أنفسهم بدون وازعٍ‏.‏

وبيّن الماورديّ أنّ وجود الإمام هو الّذي يمنع الفوضى، فيقول‏:‏ الإمامة موضوعة لخلافة النّبوّة في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا، ولولا الولاة لكان النّاس فوضى مهملين وهمجاً مضيّعين‏.‏ ثمّ يوضّح الماورديّ واجبات الإمام في ذلك فيقول‏:‏ الّذي يلزم الإمام من الأمور العامّة عشرة أشياء‏:‏

أحدها‏:‏ حفظ الدّين على أصوله المستقرّة وما أجمع عليه سلف الأمّة، فإن نجم مبتدع أو زاغ‏.‏ ذو شبهةٍ عنه أوضح له الحجّة، وبيّن له الصّواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدّين محروساً من خللٍ، والأمّة ممنوعةً من زللٍ‏.‏

الثّاني‏:‏ تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتّى تعمّ النّصفة، فلا يتعدّى ظالم، ولا يضعف مظلوم‏.‏

الثّالث‏:‏ حماية البيضة والذّبّ عن الحريم ليتصرّف النّاس في المعايش وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغريرٍ بنفسٍ أو مالٍ‏.‏

الرّابع‏:‏ إقامة الحدود لتصان محارم اللّه تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلافٍ واستهلاكٍ‏.‏

الخامس‏:‏ تحصين الثّغور بالعدّة المانعة والقوّة الدّافعة، حتّى لا تظفر الأعداء بغرّةٍ، ينتهكون فيها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلمٍ أو معاهدٍ دماً‏.‏

السّادس‏:‏ جهاد من عاند الإسلام بعد الدّعوة حتّى يسلم، أو يدخل في الذّمّة، ليقام بحقّ اللّه تعالى في إظهاره على الدّين كلّه‏.‏

السّابع‏:‏ جباية الفيء والصّدقات على ما أوجبه الشّرع نصّاً واجتهاداً من غير خوفٍ ولا عسفٍ‏.‏

الثّامن‏:‏ تقدير العطايا وما يستحقّ في بيت المال من غير سرفٍ ولا تقتيرٍ، ودفعه في وقتٍ لا تقديم فيه ولا تأخير‏.‏

التّاسع‏:‏ استكفاء الأمناء وتقليد النّصحاء فيما يفوّض إليهم من الأعمال ويوكّل إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطةً، والأموال بالأمناء محفوظةً‏.‏

العاشر‏:‏ أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفّح الأحوال، لينهض بسياسة الأمّة وحراسة الملّة، ولا يعوّل على التّفويض تشاغلاً بلذّةٍ أو عبادةٍ، فقد يخون الأمين، ويغشّ النّاصح‏.‏

اشتراط الأمن بالنّسبة لأداء العبادات

6 - الأمن مقصود به سلامة النّفس والمال والعرض والدّين والعقل، وهي الضّروريّات الّتي لا بدّ منها لقيام مصالح الدّين والدّنيا، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ أمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه شرط في التّكليف بالعبادات‏.‏ لأنّ المحافظة على النّفوس والأعضاء للقيام بمصالح الدّنيا والآخرة أولى من تعريضها للضّرر بسبب العبادة‏.‏

ويتّضح ذلك من الأمثلة الآتية‏:‏

أوّلاً‏:‏ في الطّهارة‏:‏

7 - الطّهارة بالماء الطّهور من الحدث الأصغر أو الأكبر من شرائط الصّلاة لكن من كان بينه وبين الماء عدوّ أو لصّ أو سبع أو حيّة يخاف على نفسه الهلاك أو الضّرر الشّديد أبيح له التّيمّم، لأنّ إلقاء النّفس إلى التّهلكة حرام، وكذا من كان به جراحة أو مرض ويخشى على نفسه التّلف باستعمال الماء فإنّه يتيمّم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيّباً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ وقد روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ «رجلاً أصابه جرح في رأسه على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ أصابه احتلام فأمر بالاغتسال، فاغتسل فكزّ فمات، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قتلوه قتلهم اللّه»‏.‏

‏(‏ر‏:‏ طهارة - وضوء - غسل - تيمّم‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ في الصّلاة‏:‏

8 - أ - من شرائط الصّلاة استقبال القبلة مع الأمن، فإذا لم يتحقّق الأمن بأن خاف من نحو عدوٍّ أو سبعٍ سقط الاستقبال وصلّى على حاله لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم» ‏(‏ر‏:‏ استقبال‏)‏‏.‏

ب - صلاة الجمعة فرض إلاّ أنّها لا تجب على خائفٍ على نفسه أو ماله إجماعاً‏.‏

ج - صلاة الجماعة سنّة أو فرض على الكفاية على اختلافٍ بين الفقهاء، ولكن الجماعة تسقط لخوفٍ على نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ، لما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر - قالوا‏:‏ وما العذر ‏؟‏ قال‏:‏ خوف أو مرض- لم تقبل منه الصّلاة الّتي صلّى»‏.‏

ثالثاً‏:‏ في الحجّ‏:‏

9 - يشترط لوجوب الحجّ أمن الطّريق في النّفس والمال والعرض، فمن خاف على ذلك من عدوٍّ أو سبعٍ أو لصٍّ أو غير ذلك لم يلزمه الحجّ إن لم يجد طريقاً آخر آمناً‏.‏ وإذا لم يكن للحجّ مثلاً طريق إلاّ بالبحر، وكان الغالب عدم سلامة الوصول لم يجب الحجّ‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها‏}‏ ‏(‏ر حجّ‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر‏:‏

10 - الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب على‏.‏ سبيل الكفاية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ وشرط وجوبه أن يأمن الإنسان على نفسه أو ماله وإن قلّ أو غير ذلك‏.‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ‏(‏ر‏:‏ أمر بالمعروف‏)‏

اشتراط الأمن بالنّسبة للامتناع عن المحرّمات

11 - الحفاظ على النّفس والمال والعرض من مقاصد الشّريعة، وقد تبيّن ممّا تقدّم، أنّه لو كان في القيام بعبادةٍ ما تلف للإنسان في نفسه أو ماله فإنّه يرخّص ويخفّف عنه فيها‏.‏ ومثل ذلك يقال في المحرّمات‏.‏ فلو كان فيما حرّمه الشّارع ضرر يلحق الإنسان في نفسه لو امتنع عنه امتثالاً للنّهي، فإنّه حينئذٍ يباح له ما حرم في الأصل ولا إثم عليه‏.‏

والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه‏}‏ وقوله تعالى‏:‏

‏{‏إلاّ ما اضطررتم إليه‏}‏ ومن القواعد الفقهيّة في ذلك‏:‏ الضّرر يزال، والضّرورات تبيح المحظورات‏.‏ والأمثلة على ذلك كثيرة في الفقه الإسلاميّ، ومنها‏:‏

أ - يجوز بل يجب تناول الميتة والدّم والخنزير عند المخمصة إذا لم يجد الإنسان غيرها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه‏}‏‏.‏

ب - يباح تناول الخمر لإزالة الغصّة‏.‏

ج - يجوز التّلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه الملجئ إلى ذلك

د - يجوز إلقاء المتاع من السّفينة المشرفة على الغرق‏.‏

هـ - يجوز دفع الصّائل ولو أدّى إلى قتله‏.‏ وغير ذلك كثير، وينظر تفصيله والخلاف فيه في بحث ‏(‏ضرورة‏)‏ ‏(‏وإكراه‏)‏‏.‏

اشتراط الأمن في سكن الزّوجة

12 - من حقوق الزّوجة على زوجها وجوب توفير المسكن الملائم، لقوله تعالى في شأن المعتدّات من الطّلاق‏:‏ ‏{‏أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏‏.‏ فإنّه يدلّ على وجوب إسكان المطلّقة أثناء العدّة، وإذا كان إسكان المطلّقة أثناء العدّة واجباً، كان إسكان الزّوجة حال قيام الزّوجيّة واجباً بالطّريق الأولى‏.‏

ومن شروط المسكن أن تأمن فيه الزّوجة على نفسها ومالها، ولو أسكنها في بيتٍ من الدّار مفرداً وله غلق كفاها، وليس لها أن تطالبه بمسكنٍ آخر، لأنّ الضّرر بالخوف على المتاع وعدم التّمكّن من الاستمتاع قد زال‏.‏ وإن أساء الزّوج عشرتها ولم تستطع إثبات ذلك أسكنها القاضي إلى جانب ثقةٍ يمنعه من الإضرار بها والتّعدّي عليها‏.‏ وهذا باتّفاقٍ في الجملة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ سكنى - نفقة - نكاح‏)‏

اشتراط الأمن في القصاص فيما دون النّفس وعند إقامة حدّ الجلد

13 - القصاص في الجروح والأطراف أمر مقرّر في الشّريعة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ إلاّ أنّه يشترط للقصاص فيما دون النّفس إمكان استيفاء المثل من غير حيفٍ ولا زيادةٍ مع الأمن من السّراية، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏، ولأنّ دم الجاني معصوم إلاّ في قدر جنايته، فما زاد عليها يبقى على العصمة، فيحرم استيفاؤه بعد الجناية لتحريمه قبلها، ومن ضرورة المنع من الزّيادة المنع من القصاص، لأنّها من لوازمه‏.‏ وهكذا كلّ ما كان فيه القود فيما دون النّفس متلفاً، فلا قود فيه‏.‏ كما أنّه لا يستوفى القصاص بآلةٍ يخشى منها الزّيادة، كأن تكون سامّةً أو كالّةً، لما روى شدّاد بن أوسٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيءٍ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»‏.‏ ولخوف التّلف يؤخّر القصاص فيما دون النّفس للحرّ المفرط والبرد المفرط، ومرض الجاني، وحتّى تضع الحامل‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء في الجملة، وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏قصاص‏)‏‏.‏ وكذلك الأمر بالنّسبة لإقامة حدّ الجلد، إذ يشترط ألاّ يكون في إقامة حدّ الجلد خوف الهلاك، لأنّ هذا الحدّ شرع زاجراً لا مهلكاً، وعلى ذلك فلا يقام حدّ الجلد في الحرّ الشّديد والبرد الشّديد، ولا على مريضٍ حتّى يبرأ، ولا على حاملٍ حتّى تضع‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حدّ وجلد‏)‏

اشتراط الأمن لمريد السّفر بمال الشّركة أو المضاربة أو الوديعة

أ - في الشّركة والمضاربة‏:‏

14 - لا يجوز لأيٍّ من الشّريكين أن يسافر بمال الشّركة، إذا كان الطّريق مخوفاً إلاّ بإذن شريكه باتّفاق الفقهاء، لأنّ السّفر بمال الشّركة في الطّريق المخوف يؤدّي إلى تعريضه للأخطار، وتعريض مال الغير للخطر لا يجوز دون إذن صاحبه‏.‏ ومثل ذلك مال المضاربة، فإنّه لا يجوز لعامل المضاربة السّفر بمال المضاربة إلاّ عند أمن الطّريق‏.‏

ب - في الوديعة‏:‏

15 - عند الحنفيّة، وهو المذهب عند الحنابلة‏:‏ يجوز السّفر بمال الوديعة إن كان الطّريق آمناً ولم يخف عليها، فإن كان الطّريق مخوفاً فلا يجوز له السّفر بها، وإلاّ ضمن‏.‏ ومذهب الشّافعيّة والمالكيّة‏:‏ أنّ من كانت عنده وديعة، وأراد السّفر، وجب عليه تسليمها لصاحبها أو وكيله أو أمينٍ، فإن سافر بها مع وجود أحدٍ من هؤلاء ضمن، لأنّ الإيداع يقتضي الحفظ في الحرز، وليس السّفر من مواضع الحفظ، لأنّه إمّا أن يكون مخوفاً أو آمناً لا يوثق بأمنه، ولذلك لا يجوز السّفر الوديعة مع عدم الضّرورة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ وديعة‏)‏‏.‏

استفادة أمن الطّريق في القرض

16 - الأصل أنّ كلّ قرضٍ جرّ منفعةً فهو ممنوع، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قرضٍ جرّ منفعةً» وعلى هذا تخرج مسألة السّفاتج‏.‏ وهي‏:‏ اشتراط القضاء ببلدٍ آخر، لانتفاع المقرض بدفع خطر الطّريق‏.‏

والقرض بهذا الشّرط ممنوع عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة ورواية عن الإمام أحمد - لأنّ القرض عقد إرفاقٍ وقربةٍ، فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه، إلاّ إذا عمّ الخوف برّاً وبحراً فإنّ المالكيّة يجيزونه في هذه الحالة للضّرورة صيانةً للأموال‏.‏ وإن كان بدون شرطٍ فهو جائز باتّفاقٍ، لأنّه من حسن القضاء، وقد روي أنّ «رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استلف من رجلٍ بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصّدقة، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره، فرجع إليه أبو رافعٍ، فقال‏:‏ لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعيّاً فقال‏:‏ أعطه إيّاه، إنّ خيار النّاس أحسنهم قضاءً» ‏(‏34 م 2‏)‏ وروي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه ‏"‏ كان يستقرض بالمدينة ويردّ بالكوفة ‏"‏ وذلك بدون شرطٍ‏.‏

والصّحيح عند الحنابلة أنّه جائز ولو بشرطٍ، لأنّه مصلحة للمقرض والمقترض من غير ضررٍ بواحدٍ منها، والشّرع لا يرد بتحريم المصالح الّتي لا مضرّة فيها بل بمشروعيّتها، ولأنّ هذا ليس بمنصوصٍ على تحريمه، ولا في معنى المنصوص، فوجب بقاؤه على الإباحة‏.‏ وذكر القاضي‏:‏ أنّ للوصيّ قرض مال اليتيم في بلدٍ أخرى ليربح خطر الطّريق‏.‏ وقال عطاء‏:‏ كان ابن الزّبير رضي الله عنهما يأخذ من قومٍ بمكّة دراهم، ثمّ يكتب لهم بها إلى أخيه مصعب بالعراق، فيأخذونها منه، فسئل عن ذلك ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فلم ير به بأساً، وروي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه سئل عن مثل هذا فلم ير به بأساً‏.‏

تحقّق الأمن بالنّسبة للمحرم

17 - كان الحرم موضع أمنٍ لأهله ومن لجأ إليه، وكان هذا معروفاً في الجاهليّة واستمرّ في الإسلام‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً‏}‏، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة‏:‏ «إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السّموات والأرض، فهو حرام يحرّمه اللّه تعالى إلى يوم القيامة، وإنّه لم يحلّ القتال فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلّ لي إلاّ ساعةً من نهارٍ، فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلاّ من عرفها، ولا يختلى خلاه، فقال العبّاس‏:‏ يا رسول اللّه إلاّ الإذخر فإنّه لقينهم وبيوتهم، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إلاّ الإذخر»

ولاستيفاء باقي أحكام الحرم، وتفاصيله ‏(‏ر‏:‏ حرم‏)‏‏.‏

تحقّق الأمن لغير المسلمين

18 - من المقرّر أنّ حكم الإسلام بالنّسبة للمسلمين في الدّنيا هو عصمة النّفس والمال، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا‏:‏ لا إله إلاّ اللّه فإذا قالوا لا إله إلاّ اللّه عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على اللّه»‏.‏

وبهذا يتقرّر الأمن للمسلم في نفسه وماله‏.‏ أمّا غير المسلم فإنّه يتحقّق له الأمن بتأمين المسلمين له وإعطائه الأمان، لأنّ حكم الأمان هو ثبوت الأمن للكفرة عن القتل والسّبي والاستغنام، فيحرم على المسلمين قتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريّهم واستغنام أموالهم‏.‏ والأصل في إعطاء الأمان للكفّار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه، ثمّ أبلغه مأمنه‏}‏‏.‏

19 - والأمان قسمان‏:‏

الأوّل‏:‏ أمان يعقده الإمام أو نائبه، وهو نوعان‏:‏

مؤقّت، وهو ما يسمّى بالهدنة وبالمعاهدة وبالموادعة - وهو عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مدّةً معلومةً - مع اختلاف الفقهاء في مقدار مدّة الموادعة‏.‏ وقد روي أنّ «رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وادع أهل مكّة عام الحديبية على أن توضع الحرب بين الفريقين عشر سنين»‏.‏

والنّوع الثّاني‏:‏ الأمان المؤبّد، وهو ما يسمّى عقد الذّمّة، وهو إقرار بعض الكفّار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون‏}‏‏.‏

هذا مع اختلاف الفقهاء في غير أهل الكتاب، هل تقبل منهم الجزية ويقرّون على حالهم أم لا يقبل منهم إلاّ الإسلام، فإن لم يسلموا قتلوا‏.‏

والقسم الثّاني من الأمان‏:‏ هو الأمان الّذي يصدر من أحد المسلمين لعددٍ محصورٍ من الكفّار، ويدلّ عليه حديث‏:‏ «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم»‏.‏ وأخبار أخرى، وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏أمان، وذمّة، ومعاهدة‏)‏‏.‏

أمة

انظر‏:‏ رقّ‏.‏

إمهال

التّعريف

1 - الإمهال لغةً‏:‏ الإنظار وتأخير الطّلب‏.‏

وعند الفقهاء يستعمل كذلك بمعنى‏:‏ الإنظار والتّأجيل‏.‏ والإمهال ينافي التّعجيل‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - أ - الإعذار‏:‏ وهو سؤال الحاكم من توجّه عليه موجب الحكم‏:‏ هل له ما يسقطه ‏؟‏ وينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏إعذار‏)‏‏.‏

ب - التّنجيم‏:‏ هو تأجيل العوض بأجلين فصاعداً‏.‏

ج - التّلوّم‏:‏ وهو التّمكّث والتّمهّل والتّصبّر، ومنه أن يتصبّر الحاكم مثلاً للزّوج مدّةً قبل التّطليق عليه للإعسار‏.‏

د - التّربّص‏:‏ وهو بمعنى الانتظار‏.‏ ومدّة الإمهال تارةً تكون مقدّرةً كإمهال المولى، وتارةً تكون غير مقدّرةٍ، وقد يختلف ذلك عند بعض الفقهاء عن البعض الآخر‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يجب إنظار من ثبت إعساره عند الأئمّة الأربعة إلى وقت اليسار، ولا يحبس، لقول اللّه سبحانه ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرةٍ‏}‏‏.‏

والعنّين يضرب له القاضي سنةً عند الجمهور، ‏"‏ كما فعل عمر رضي الله عنه ‏"‏ رواه الشّافعيّ وغيره، فقد يكون تعذّر الجماع لعارض حرارةٍ فيزول في الشّتاء، أو برودةٍ فيزول في الصّيف، أو يبوسةٍ فتزول في الرّبيع، أو رطوبةٍ فتزول في الخريف، فإذا مضت السّنة ولم يطأ، علمنا أنّه عجز خلقيّ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ عنّين‏)‏‏.‏

4 - وأجل المولي أربعة أشهرٍ، لقول اللّه سبحانه ‏{‏للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهرٍ فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم‏}‏ ‏(‏ر‏:‏ إيلاء‏)‏‏.‏

5 - وفي القضاء لو استمهل المدّعي لإحضار بيّنته، فإنّ أغلب الفقهاء على أنّه يمهل، وهل هذا الإمهال واجب أو مستحبّ، خلاف بين الفقهاء‏.‏

وقدّر بعضهم مدّة الإمهال ثلاثة أيّامٍ، وبعضهم جعلها إلى اجتهاد القاضي‏.‏

وانظر للتّفصيل مصطلح ‏(‏قضاء‏)‏‏.‏

وفي الإمهال لعذرٍ، وفي منعه عند طلب الخصم، يراجع ‏(‏قضاء، ودعوى‏)‏‏.‏

والإمهال يمتنع فيما تشترط فيه الفوريّة، كاستمهال من طلّق إحدى زوجتيه‏:‏ لتعيين المطلّقة منهما، واستمهال المشتري ردّ المبيع بالعيب، والشّفيع في طلب الشّفعة، وغير ذلك من الأمور الّتي تشترط فيها الفوريّة‏.‏

مواطن البحث

6 - من المواطن الّتي يذكر فيها الإمهال‏:‏ مباحث الكفالة، فيمهل الكفيل لإحضار المكفول عنه من مسافة القصر فما دونها‏.‏ ومنها‏:‏ النّفقة، فيمهل الزّوج لإحضار ماله الّذي في مسافة القصر‏.‏ وفي الصّداق تمهل الزّوجة للدّخول، وكذا يمهل الزّوج لوجود بعض الأعذار كالتّنظيف ونحوه‏.‏

أموال

انظر‏:‏ مال‏.‏

أموال الحربيّين

انظر‏:‏ أنفال‏.‏

أمير

انظر‏:‏ إمارة‏.‏

أمين

انظر‏:‏ أمانة‏.‏

إناء

انظر‏:‏ آنيّة‏.‏

إنابة

انظر‏:‏ نيابة - توبة‏.‏

إنبات

انظر‏:‏ بلوغ‏.‏

أنبياء

انظر‏:‏ نبيّ‏.‏

انتباذ

انظر‏:‏ أشربة‏.‏

انتحار

التّعريف

1 - الانتحار في اللّغة مصدر‏:‏ انتحر الرّجل، بمعنى نحر نفسه أي‏:‏ قتلها‏.‏

ولم يستعمله الفقهاء بهذا المعنى‏.‏ لكنّهم عبّروا عنه بقتل الإنسان نفسه‏.‏

وفي حديث أبي هريرة‏:‏ «أنّ رجلاً قاتل في سبيل اللّه أشدّ القتال، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّه من أهل النّار، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرّجل ألم الجرح، فأهوى بيده إلى كنانته، فانتزع منها سهماً فانتحر بها»‏.‏

وفي الحديث نفسه‏:‏ «انتحر فلان فقتل نفسه» رواه البخاريّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - النّحر والذّبح‏:‏

2 - النّحر عند الفقهاء هو‏:‏ فري الأوداج وقطع كلّ الحلقوم، ومحلّه من أسفل الحلقوم‏.‏ ويطلق الانتحار على قتل الإنسان نفسه بأيّ وسيلةٍ كانت‏.‏

ولهذا ذكروا أحكامه باسم ‏(‏قتل الشّخص نفسه‏)‏

بم يتحقّق الانتحار

3 - الانتحار نوع من القتل فيتحقّق بوسائل مختلفةٍ‏.‏ ويتنوّع بأنواعٍ متعدّدةٍ كالقتل‏.‏

فإذا كان إزهاق الشّخص نفسه بإتيان فعلٍ منهيٍّ عنه، كاستعمال السّيف أو الرّمح أو البندقيّة أو أكل السّمّ أو إلقاء نفسه من شاهقٍ أو في النّار ‏"‏ ليحترق أو في الماء ليغرق وغير ذلك من الوسائل، فهو انتحار بطريق الإيجاب‏.‏

واذا كان الإزهاق بالامتناع عن الواجب، كالامتناع من الأكل والشّرب وترك علاج الجرح الموثوق ببرئه بما فيه من خلافٍ سيأتي، أو عدم الحركة في الماء أو في النّار أو عدم التّخلّص من السّبع الّذي يمكن النّجاة منه، فهو انتحار بطريق السّلب‏.‏

4- ويقسّم الانتحار بحسب إرادة المنتحر إلى نوعين‏:‏ الانتحار عمداً والانتحار خطأً‏.‏

فإذا ارتكب الشّخص عملاً حصل منه قتل نفسه، وأراد النّتيجة الحاصلة من العمل، يعتبر القتل انتحاراً عمداً‏.‏ كرمي نفسه بقصد القتل مثلاً‏.‏

وإذا أراد صيداً أو قتل العدوّ فأصاب نفسه، ومات، يعتبر انتحاراً خطأً‏.‏

وستأتي أحكامهما قريباً‏.‏

ويمكن أن يحصل الانتحار بطريقٍ يعتبر شبه العمد عند غير المالكيّة، كقتل الإنسان نفسه بما لا يقتل غالباً، كالسّوط والعصا‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏قتل‏)‏‏.‏

أمثلة من الانتحار بطريق السّلب

أوّلاً‏:‏ الامتناع من المباح‏:‏

5 - من امتنع من المباح حتّى مات كان قاتلاً نفسه، متلفاً لها عند جميع أهل العلم‏.‏ لأنّ الأكل للغذاء والشّرب لدفع العطش فرض بمقدار ما يدفع الهلاك، فإن ترك الأكل والشّرب حتّى هلك فقد انتحر، لأنّ فيه إلقاء النّفس إلى التّهلكة المنهيّ عنه في محكم التّنزيل‏.‏

وإذا اضطرّ الإنسان للأكل أو الشّرب من المحرّم كالميتة والخنزير والخمر حتّى ظنّ الهلاك جوعاً لزمه الأكل والشّرب، فإذا امتنع حتّى مات صار قاتلاً نفسه، بمنزلة من ترك أكل الخبز وشرب الماء في حال الإمكان، لأنّ تاركه ساعٍ في إهلاك نفسه، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏‏.‏

وكذلك حكم الإكراه على أكل المحرّم، فلا يباح للمكره الامتناع من أكل الميتة أو الدّم أو لحم الخنزير في حالة الإكراه، لأنّ هذه الأشياء ممّا يباح عند الاضطرار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ ما اضطررتم إليه‏}‏ والاستثناء من التّحريم إباحة، وقد تحقّق الاضطرار بالإكراه، ولو امتنع عنه حتّى قتل يؤاخذ به ويعدّ منتحراً، لأنّه بالامتناع عنه صار ملقياً نفسه إلى التّهلكة‏.‏

ثانياً‏:‏ ترك الحركة عند القدرة‏:‏

6 - من ألقي في ماءٍ جارٍ أو راكدٍ لا يعدّ مغرقاً، كمنبسطٍ يمكنه الخلاص منه عادةً، فمكث فيه مضطجعاً مثلاً مختاراً لذلك حتّى هلك، يعتبر منتحراً وقاتلاً نفسه، ولذلك لا قود ولا دية على الّذي ألقاه في الماء عند عامّة العلماء، لأنّ هذا الفعل لم يقتله، وإنّما حصل الموت بلبثه فيه، وهو فعل نفسه، فلم يضمنه غيره‏.‏ كذلك إن تركه في نارٍ يمكنه الخلاص منها لقلّتها، أو لكونه في طرفٍ منها يمكنه الخروج بأدنى حركةٍ، فلم يخرج حتّى مات‏.‏ وفي وجهٍ عند الحنابلة‏:‏ لو تركه في نارٍ يمكنه التّخلّص منها فلم يخرج يضمن، لأنّه جانٍ بالإلقاء المفضي إلى الموت‏.‏ وفارق الماء، لأنّه غير مهلكٍ بنفسه، ولهذا يدخله النّاس للسّباحة، أمّا النّار فيسيرها يهلك، ولأنّ النّار لها حرارة شديدة، فربّما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلّص به، أو أذهبت عقله بألمها وروعتها‏.‏

ثالثاً‏:‏ ترك العلاج والتّداوي‏:‏

7 - الامتناع من التّداوي في حالة المرض لا يعتبر انتحاراً عند عامّة الفقهاء، فمن كان مريضاً وامتنع من العلاج حتّى مات، لا يعتبر عاصياً، إذ لا يتحقّق بأنّه يشفيه‏.‏

كذلك لو ترك المجروح علاج جرحٍ مهلكٍ فمات لا يعتبر منتحراً، بحيث يجب القصاص على جارحه، إذ البرء غير موثوقٍ به وإن عالج‏.‏

أمّا إذا كان الجرح بسيطاً والعلاج موثوقاً به، كما لو ترك المجنيّ عليه عصب العرق، فإنّه يعتبر قد قتل نفسه، حتّى لا يسأل جارحه عن القتل عند الشّافعيّة‏.‏ وصرّح الحنابلة بخلافه، وقالوا‏:‏ إن ترك شدّ الفصاد مع إمكانه لا يسقط الضّمان، كما لو جرح فترك مداواة جرحه‏.‏ ومع تصريح الحنفيّة بأنّ ترك العلاج لا يعتبر عصياناً، لأنّ البرء غير موثوقٍ به، قالوا‏:‏ إن ضرب رجلاً بإبرةٍ في غير المقتل عمداً فمات، لا قود فيه فقد فصّلوا بين الجرح المهلك وغير المهلك الشّافعيّة، فيفهم منه أنّ ترك الجرح اليسير لنزف الدّم حتّى الموت يشبه الانتحار‏.‏ ولم نعثر على نصٍّ للمالكيّة في هذه المسألة‏.‏

حكمه التّكليفي

8 - الانتحار حرام بالاتّفاق، ويعتبر من أكبر الكبائر بعد الشّرك باللّه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إنّ اللّه كان بكم رحيماً‏}‏‏.‏

وقد قرّر الفقهاء أنّ المنتحر أعظم وزراً من قاتل غيره، وهو فاسق وباغٍ على نفسه، حتّى قال بعضهم‏:‏ لا يغسّل ولا يصلّى عليه كالبغاة، وقيل‏:‏ لا تقبل توبته تغليظاً عليه‏.‏

كما أنّ ظاهر بعض الأحاديث يدلّ على خلوده في النّار‏.‏ منها قوله «من تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالداً مخلّداً فيها أبداً»‏.‏

وهناك حالات خاصّة تشبه الانتحار، لكنّه لا عقاب على مرتكبها، ولا يأثم فاعلها، لأنّها ليست انتحاراً في الواقع كالآتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ الانتقال من سبب موتٍ إلى آخر‏:‏

9 - إذا وقع حريق في سفينةٍ، وعلم أنّه لو ظلّ فيها احترق، ولو وقع في الماء غرق‏.‏ فالجمهور ‏(‏المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة، وهو قول أبي حنيفة‏)‏ على أنّ له أن يختار أيّهما شاء‏.‏ فإذا رمى نفسه في الماء ومات جاز، ولا يعتبر ذلك انتحاراً محرّماً إذا استوى الأمران‏.‏ وقال الصّاحبان من الحنفيّة، وهو رواية عن أحمد‏:‏ أنّه يلزمه المقام والصّبر، لأنّه إذا رمى نفسه في الماء كان موته بفعله، وإن أقام فموته بفعل غيره‏.‏

كذلك جاز له الانتقال من سبب موتٍ إلى سبب موتٍ آخر، إذا كان في السّبب الّذي ينتقل إليه نوع خفّةٍ مع التّأكّد من القتل فيهما عند أبي حنيفة، قال الزّيلعيّ‏:‏ ولو قال له‏:‏ لتلقين نفسك في النّار أو من الجبل، أو لأقتلنك، وكان الإلقاء بحيث لا ينجو منه، ولكن فيه نوع خفّةٍ، فله الخيار إن شاء فعل ذلك، وإن شاء لم يفعل وصبر حتّى يقتل، لأنّه ابتلي ببليّتين فيختار ما هو الأهون في زعمه، وهذا هو مذهب الشّافعيّة‏.‏ وعند الصّاحبين من الحنفيّة يصبر ولا يفعل ذلك، لأنّ مباشرة الفعل سعي في إهلاك نفسه فيصبر تحامياً عنه‏.‏

أمّا إذا ظنّ السّلامة في الانتقال من سببٍ إلى سببٍ آخر للموت، أو رجا طول الحياة ولو مع موتٍ أشدّ وأصعب من الموت المعجّل، قد صرّح المالكيّة بوجوبه، لأنّ حفظ النّفوس واجب ما أمكن، وعبّر الحنابلة بأنّه هو الأولى، ممّا يدلّ على عدم الوجوب‏.‏

10 - ومن أمثلة الانتقال من سبب موتٍ إلى سبب موتٍ آخر ما ذكروا من أنّه لو تبع بسيفٍ ونحوه مميّزاً هارباً منه فرمى نفسه بماءٍ أو نارٍ من سطحٍ فمات، فلا ضمان عليه في قولٍ عند الشّافعيّة، وهو قياس مذهب الحنفيّة، لمباشرته إهلاك نفسه عمداً، كما لو أكره إنساناً على أن يقتل نفسه فقتلها‏.‏ فكأنّه يشبه الانتحار عندهم‏.‏ والقول الآخر عند الشّافعيّة أنّ عليه نصف الدّية‏.‏ أمّا لو وقع بشيءٍ ممّا ذكر جاهلاً به، لعمًى أو ظلمةٍ مثلاً أو تغطية بئرٍ، أو ألجأه إلى السّبع

بمضيقٍ ضمن من تبعه، لأنّه لم يقصد إهلاك نفسه وقد ألجأه التّابع إلى الهرب المفضي للهلاك‏.‏ وكذا لو انخسف به سقف في هربه في الأصحّ‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا طلب إنساناً بسيفٍ مشهورٍ فهرب منه، فتلف في هربه ضمنه، سواء أكان من الشّاهق، أم انخسف به سقف أم خرّ في بئرٍ، أم لقيه سبع، أم غرق في ماءٍ، أم احترق بنارٍ‏.‏ وسواء أكان المطلوب صغيراً أم كبيراً، أعمى أم بصيراً، عاقلاً أم مجنوناً‏.‏ وفصّل المالكيّة في الموضوع فقالوا‏:‏ من أشار إلى رجلٍ بسيفٍ، وكانت بينهما عداوة، فتمادى بالإشارة إليه وهو يهرب منه، فطلبه حتّى مات فعليه القصاص بدون القسامة إذا كان الموت بدون السّقوط، وإذا سقط ومات فعليه القصاص مع القسامة‏.‏

أمّا إذا كان بدون عداوةٍ فلا قصاص، وفيه الدّية على العاقلة‏.‏

ثانياً‏:‏ هجوم الواحد على صفّ العدوّ‏:‏

11 - اختلف الفقهاء في جواز هجوم رجلٍ من المسلمين وحده على جيش العدوّ، مع التّيقّن بأنّه سيقتل‏.‏

فذهب المالكيّة إلى جواز إقدام الرّجل المسلم على الكثير من الكفّار، إن كان قصده إعلاء كلمة اللّه، وكان فيه قوّة وظنّ تأثيره فيهم، ولو علم ذهاب نفسه، فلا يعتبر ذلك انتحاراً‏.‏ وقيل إذا طلب الشّهادة، وخلصت النّيّة فليحمل، لأنّ مقصوده واحد من الأعداء، وذلك بيّن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه‏}‏‏.‏

وقيّده بعضهم بأن يكون قد غلب على ظنّه أن سيقتل من حمل عليه وينجو، وكذلك لو علم وغلب على ظنّه أنّه يقتل، لكن سينكي نكايةً أو سيبلي أو يؤثّر أثراً ينتفع به المسلمون‏.‏ ولا يعتبر هذا إلقاء النّفس إلى التّهلكة المنهيّ عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة‏}‏ لأنّ معنى التّهلكة - كما فسّرها أكثر المفسّرين - هو الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الجهاد‏.‏ لما روى التّرمذيّ عن أسلم أبي عمران حكايةً عن غزو القسطنطينيّة أنّه «حمل رجل من المسملين على صفّ الرّوم حتّى دخل فيهم، فصاح النّاس، وقالوا‏:‏ سبحان اللّه، يلقي بيديه إلى التّهلكة، فقام أبو أيّوب الأنصاريّ فقال‏:‏ يا أيّها النّاس، إنّكم تتأوّلون هذه الآية هذا التّأويل، وإنّما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لمّا أعزّ اللّه الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعضٍ سرّاً دون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ اللّه قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل على نبيّه صلى الله عليه وسلم يردّ على ما قلنا ‏{‏وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة‏}‏ فكانت التّهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو»‏.‏

ونقل الرّازيّ روايةً عن الشّافعيّ أنّ «رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر الجنّة، فقال له رجل‏:‏ أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه فأين أنا ‏؟‏ قال‏:‏ في الجنّة، فألقى تمراتٍ في يديه ثمّ قاتل حتّى قتل»‏.‏

كذلك قال ابن العربيّ‏:‏ والصّحيح عندي جوازه، لأنّ فيه أربعة أوجهٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ طلب الشّهادة‏.‏

الثّاني‏:‏ وجود النّكاية‏.‏

الثّالث‏:‏ تجرئة المسلمين عليهم‏.‏

الرّابع‏:‏ ضعف نفوس الأعداء، ليروا أنّ هذا صنع واحدٍ منهم فما ظنّك بالجميع‏.‏

وصرّح الحنفيّة بأنّه‏:‏ إن علم أنّه إذا حارب قتل، وإذا لم يحارب أسر لم يلزمه القتال، لكنّه إذا قاتل حتّى قتل جاز بشرط أن ينكي فيهم‏.‏

أمّا إذا علم أنّه لا ينكي فيهم فإنّه لا يحلّ له أن يحمل عليهم، لأنّه لا يحصل بحملته شيء من إعزاز الدّين كما نقل عن محمّد بن الحسن أنّه قال‏:‏ لو حمل رجل واحد على ألف رجلٍ من المشركين، وهو وحده، لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاةٍ أو نكايةٍ في العدوّ‏.‏

ثالثاً‏:‏ الانتحار لخوف إفشاء الأسرار‏:‏

12 - إذا خاف المسلم الأسر، وعنده أسرار هامّة للمسلمين، ويتيقّن أنّ العدوّ سوف يطّلع على هذه الأسرار، ويحدث ضرراً بيّناً بصفوف المسلمين وبالتّالي يقتل، فهل له أن يقتل نفسه وينتحر أو يستسلم ‏؟‏‏.‏

لم نجد في جواز الانتحار خوف إفشاء الأسرار، ولا في عدم جوازه نصّاً صريحاً في كتب الفقه‏.‏ إلاّ أنّ جمهور الفقهاء أجازوا قتال الكفّار إذا تترّسوا بالمسلمين ولو تأكّدوا أنّ المسلمين سيقتلون معهم، بشرط أن يقصد بالرّمي الكفّار، ويتوقّى المسلمين بقدر الإمكان، وقيّده بعضهم بما إذا كانت الحرب قائمةً، وعلمنا أنّنا لو كففنا عنهم ظفروا بنا أو عظمت نكايتهم فينا، وجعلوا هذا من تطبيقات قاعدة‏:‏ ‏(‏يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ‏)‏‏.‏ والمعروف أنّ الفقهاء لم يجوّزوا إلقاء شخصٍ في البحر لخفّة ثقل السّفينة المشرفة للغرق، لأجل نجاة ركّابها مهما كثر عددهم، إلاّ ما نقل الدّسوقيّ المالكيّ عن اللّخميّ من جواز ذلك بالقرعة‏.‏

أمر الشّخص لغيره بقتله

إذا قال الرّجل لآخر‏:‏ اقتلني، أو قال للقائل إن قتلتني أبرأتك، أو قد وهبت لك دمي، فقتله عمداً، اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏

13 - أنّ القتل في هذه الحال لا يعتبر انتحاراً، لكن لا يجب به القصاص، وتجب الدّية في مال القاتل‏.‏ هذا هو المذهب عند الحنفيّة - ما عدا زفر - وإليه ذهب بعض الشّافعيّة، ورواه سحنون عن مالكٍ، ووصفه بأنّه أظهر الأقوال، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفوس، وإنّما سقط القصاص للشّبهة باعتبار الإذن، والشّبهة لا تمنع وجوب المال، فتجب الدّية في مال القاتل لأنّه عمد، والعاقلة لا تحمل دية العمد‏.‏

وفصّل الحنفيّة في وجوب الدّية فقالوا‏:‏ إن قتله بالسّيف فلا قصاص، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفس، وسقط القصاص لشبهة الإذن، وتجب الدّية في ماله، وإن قتله بمثقلٍ فلا قصاص لكنّه تجب الدّية على العاقلة‏.‏

الثّاني‏:‏

14 - أنّ القتل في هذه الحال قتل عمدٍ، ولا يأخذ شيئاً من أحكام الانتحار، ولهذا يجب القصاص‏.‏ وهذا قول عند المالكيّة حسّنه ابن القاسم، وهو قول عند الشّافعيّة، وإليه ذهب زفر من الحنفيّة، لأنّ الأمر بالقتل لم يقدح في العصمة، لأنّ عصمة النّفوس ممّا لا تحتمل الإباحة بحالٍ، وإذنه لا يعتبر، لأنّ القصاص لوارثه لا له، ولأنّه أسقط حقّاً قبل وجوبه‏.‏

الثّالث‏:‏

15 - أنّ القتل في هذه الحال له حكم الانتحار، فلا قصاص على من قتله ولا دية‏.‏

وهذا مذهب الحنابلة، والأظهر عند الشّافعيّة، وهو رواية عند الحنفيّة، وصحّحه القدوريّ، وهو رواية مرجوحة في مذهب مالكٍ‏.‏

أمّا سقوط القصاص فللإذن له في القتل والجناية، ولأنّ صيغة الأمر تورث شبهةً، والقصاص عقوبة مقدّرة تسقط بالشّبهة‏.‏

وأمّا سقوط الدّية فلأنّ ضمان نفسه هو حقّ له فصار كإذنه بإتلاف ماله، كما لو قال‏:‏ اقتل دابّتي ففعل فلا ضمان إجماعاً، فصحّ الأمر، ولأنّ المورث أسقط الدّية أيضاً فلا تجب للورثة‏.‏ وإذا كان الآمر أو الآذن مجنوناً أو صغيراً فلا يسقط إذنه شيئاً من القصاص ولا الدّية، لأنّه لا اعتبار بإذنهما‏.‏

16 - لو قال‏:‏ اقطع يدي، فإن كان لمنع السّراية كما إذا وقعت في يده آكلة فلا بأس بقطعه اتّفاقاً‏.‏ وإن كان لغير ذلك فلا يحلّ، ولو قطع بإذنه فلم يمت من القطع فلا قصاص ولا دية على القاطع عند الجمهور، لأنّ الأطراف يسلك بها مسلك الأموال، فكانت قابلةً للسّقوط بالإباحة والإذن، كما لو قال له‏:‏ أتلف مالي فأتلفه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن قال له‏:‏ اقطع يدي ولا شيء عليك، فله القصاص إن لم يستمرّ على الإبراء بعد القطع، ما لم يترام به القطع حتّى مات منه، فلوليّه القسامة والقصاص أو الدّية‏.‏

17 - ولو أمره أن يشجّه فشجّه عمداً، ومات منها، فلا قصاص عليه عند الجمهور ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏‏.‏

واختلفوا في وجوب الدّية على الجارح‏:‏ فقال الحنابلة وأبو حنيفة وهو رواية مرجوحة عند الشّافعيّة‏:‏ يجب على القاتل الدّية، لأنّ العفو عن الشّجّة لا يكون عفواً عن القتل، فكذا الأمر‏:‏ بالشّجّة لا يكون أمراً بالقتل، وكان القياس وجوب القصاص، إلاّ أنّه سقط لوجود الشّبهة، فتجب الدّية‏.‏ ولأنّه لمّا مات تبيّن أنّ الفعل وقع قتلاً، والمأمور به هو القطع لا القتل‏.‏ أمّا لو عفا عن الجناية أو عن القطع وما يحدث منه فهو عفو عن النّفس‏.‏

وقال الشّافعيّ في الرّاجح، وهو ما ذهب إليه الصّاحبان من الحنفيّة‏:‏ إن سرى القطع المأذون به إلى النّفس فهدر، لأنّ القتل الحاصل من القطع والشّجّة المأذون فيهما يشبه الانتحار، فلا يجب فيه قصاص ولا دية، ولأنّ العفو عن الشّجّة يكون عفواً عن القتل، فكذا الأمر بالشّجّة يكون أمراً بالقتل‏.‏ ولأنّ الأصحّ ثبوت الدّية للمورث ابتداءً، وقد أسقطها بإذنه‏.‏ وما تقدّم عن المالكيّة يفيد ثبوت القصاص في هذه الحال إن لم يستمرّ على الإبراء‏.‏

أمر الإنسان غيره بأن يقتل نفسه

18 - إذا أمر الإنسان غيره - أمراً لم يصل إلى درجة الإكراه - بقتل نفسه فقتل نفسه، فهو منتحر عند جميع الفقهاء، ولا شيء على الآمر، لأنّ المأمور قتل نفسه باختياره، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ومجرّد الأمر لا يؤثّر في الاختيار ولا في الرّضى، ما لم يصل إلى درجة الإكراه التّامّ الّذي سيأتي بيانه‏.‏

الإكراه على الانتحار

19 - الإكراه هو‏:‏ حمل المكره على أمرٍ يكرهه‏.‏ وهو نوعان‏:‏ ملجئ وغير ملجئٍ‏.‏ فالملجئ‏:‏ هو الإكراه الكامل، وهو أن يكره بما يخاف على نفسه أو على تلف عضوٍ من أعضائه‏.‏ وهذا النّوع يعدم الرّضى، ويوجب الإلجاء، ويفسد الاختيار‏.‏

وغير الملجئ‏:‏ هو أن يكرهه بما لا يخاف على نفسه، ولا يوجب الإلجاء ولا يفسد الاختيار‏.‏ والمراد هنا الإكراه الملجئ الّذي يعدم الرّضى ويفسد الاختيار‏.‏

20- إذا أكره إنسان غيره إكراهاً ملجئاً ليقتل المكره، بأن قال له‏:‏ اقتلني وإلاّ قتلتك، فقتله فهو في حكم الانتحار، حتّى لا يجب على القاتل القصاص ولا الدّية عند الجمهور ‏(‏الحنفيّة والحنابلة، وهو الأظهر عند الشّافعيّة‏)‏ لأنّ المكره ‏(‏بفتح الرّاء‏)‏ كالآلة بيد المكره في الإكراه التّامّ ‏(‏الملجئ‏)‏ فينسب الفعل إلى المكره وهو المقتول، فصار كأنّه قتل نفسه، كما استدلّ به الحنفيّة، ولأنّ إذن المكلّف يسقط الدّية والقصاص معاً كما قال الشّافعيّة، فكيف إذا اشتدّ الأمر إلى درجة الإكراه الملجئ ‏؟‏ وفي قولٍ عند الشّافعيّة‏:‏ تجب الدّية على المكره، لأنّ القتل لا يباح بالإذن، إلاّ أنّه شبهة تسقط القصاص‏.‏ ولم نعثر للمالكيّة على نصٍّ في الموضوع، وقد سبق رأيهم بوجوب القصاص على القاتل إذا أمره المقتول بالقتل‏.‏ 21 -إذا أكره شخص غيره إكراهاً ملجئاً ليقتل الغير نفسه، بأن قال له‏:‏ اقتل نفسك وإلاّ قتلتك، فليس له أن يقتل نفسه، وإلاّ يعدّ منتحراً وآثماً، لأنّ المكره عليه لا يختلف عن المكره به، فكلاهما قتل، فلأن يقتله المكره أولى من أن يقتل هو نفسه‏.‏

ولأنّه يمكن أن ينجو من القتل بتراجع المكره، أو بتغيّر الحالة بأسبابٍ أخرى، فليس له أن ينتحر ويقتل نفسه‏.‏

ويتفرّع على هذا أنّه إذا قتل نفسه فلا قصاص على المكره في الأظهر عند الشّافعيّة، لانتفاء كونه إكراهاً حقيقةً، لاتّحاد المأمور به والمخوّف به، فكأنّه اختار القتل كما علّله الشّافعيّة، لكنّه يجب على الآمر نصف الدّية، بناءً على أنّ المكره شريك، وسقط عنه القصاص للشّبهة بسبب مباشرة المكره قتل نفسه‏.‏

وقال الحنابلة، وهو قول عند الشّافعيّة‏:‏ يجب القصاص على المكره، إذا قتل المكره نفسه، كما لو أكرهه على قتل غيره‏.‏

ولو أكرهه على قتل نفسه بما يتضمّن تعذيباً شديداً كإحراقٍ أو تمثيلٍ إن لم يقتل نفسه، كان إكراهاً كما جرى عليه البزّار، ومال إليه الرّافعيّ من علماء الشّافعيّة، وإن نازع فيه البلقينيّ‏.‏ وفصّل الحنفيّة في الموضوع فقالوا‏:‏ لو قال لتلقين نفسك في النّار أو من رأس الجبل أو لأقتلنّك بالسّيف، فألقى نفسه من الجبل، فعند أبي حنيفة تجب الدّية على عاقلة المكره، لأنّه لو باشر بنفسه لا يجب عليه القصاص عنده، لأنّه قتل بالمثقل، فكذا إذا أكره عليه‏.‏ وعند أبي يوسف تجب الدّية على المكره في ماله، وعند محمّدٍ يجب القصاص، لأنّه كالقتل بالسّيف عنده‏.‏ أمّا إذا ألقى نفسه في النّار فاحترق، فيجب القصاص على المكره عند أبي حنيفة أيضاً‏.‏ هذا، ولم نجد في المسألة نصّاً عند المالكيّة، وانظر ‏(‏إكراه‏)‏‏.‏

اشتراك المنتحر مع غيره

22-اختلف الفقهاء فيمن جرح نفسه، ثم جرحه غيره فمات منهما، فهل يعتبر انتحاراً ‏؟‏

وهل يجب على المشارك له قصاص أو دية ‏؟‏ يختلف الحكم عندهم بحسب الصور‏:‏

أ-فلو جرح نفسه عمداً أوخطأً، كأن أراد ضرب من اعتدى عليه بجرح فأصاب نفسه، أو خاط جرحه فصادف اللحم الحي، ثم جرحه شخص آخر خطأً، فمات منهما، فلا قصاص عند عامة الفقهاء، لأنه لاقصاص على المخطئ بالإجماع، ويلزم عاقلة الشريك نصف الدية،كما لو قتله اثنان خطأً‏.‏

ب-أما لوجرح نفسه خطأً، وجرحه شخص آخر عمداً، فلا قصاص عليه عند الجمهور ‏(‏الحنفية والمالكية والشافعية، وهو أصح الوجهين عند الحنابلة‏)‏ بناء على القاعدة التي تقول‏:‏لايقتل شريك من لاقصاص عليه كالمخطئ والصغير، وعلى المتعمد نصف دية العمد في ماله، إذ لا يدرى من أي الأمرين مات‏.‏وفي وجه آخر للحنابلة‏:‏ يقتص من الشريك العامد، لأنه قصد القتل، وخطأ شريكه لايؤثر في قصده‏.‏

ج-وإذا جرح نفسه عمداً، وجرحه آخر عمداً، ومات منهما، يقتص من الشريك العامد في وجه عند الحابلة، وهو الأظهر عند الشافعية، وقول عند المالكية بشرط القسامة، لأنه قتل عمد متمحض، فوجب القصاص على الشريك فيه كشريك الأب‏.‏

وقال الحنفية، وهو قول عند المالكية، ومقابل الأظهر عند الشافعية، ووجه عند الحنابلة‏:‏

لاقصاص على شريك قاتل نفسه، وإن كان جرحاهما عمداً، لأنه أخف من شريك المجطئ، كما يقول الشافعية، ولأنه شارك من لايجب عليه القصاص، فلم يلزمه القصاص، كشريك المخطئ، ولأنه قتل تركب من موجب وغير موجب، كما استدل به الحنفية‏.‏

وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية في ماله، ولا يشترط القسامة في وجوب نصف الدية عند المالكية، لكنهم أضافوا‏:‏ أن الجارح يضرب مائة ويحبس عاماً كذلك‏.‏

23- والمعلوم أن الدية تقسم على من اشترك في القتل، وعلى الأفعال التي تؤدي إلى القتل، فإذا حصل القتل بفعل نفسه وبفعل الشريك ولم نقل بوجوب القصاص، يجب على الشريك نصف الدية، وبهذا صرح الحنفية بأنه إن مات شخص بفعل نفسه وفعل زيد وأسد وحية ضمن زيد ثلث الدية، لأن فعل الأسد والحية جنس واحد، وهو هدر في الدارين، وفعل زيد معتبر في الدارين، وفعل نفسه هدر في الدنيا لا العقبى، حتى يأثم بالإجماع‏.‏

24- وتعرض الشافعية والحنابلة إلى مسألة أخرى لها أهميتها في اشتراك الشخص في قتل نفسه، وهي مداواة الجرح بالسم المهلك‏.‏ فإن جرحه إنسان فتداوى بسم مذفف يقتل في الحال، فقد قتل نفسه وقطع سراية الجرح، وجرى مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح، فلا قصاص ولا دية على جارحه في النفس، وينظر في الجرح، فإن كان موجباً للقصاص فلوليه استيفاؤه، وإلا فلوليه الأرش‏.‏ وإن كان السم لايقتل في الغالب، أو لم يعلم حاله، أو قد يقتل بفعل الرجل في نفسه، فالقتل شبه عمد، والحكم في شريكه كالحكم في شريك المخطئ‏.‏ وإذا لم يجب القصاص على الجارح فعليه نصف الدية‏.‏

وإن كان السم يقتل غالباً، وعلم حاله، فحكمه كشريك جارح نفسه، فيلزمه القصاص في الأظهر عند الشافعية، وهو وجه عند الحنابلة، أوهو شريك مخطئ في قول آخر للشافعية،

وهو وجه آخر عند الحنابلة، فلا قود عليه، لأنه لم يقصد القتل، وإنما قصد التداوي‏.‏

أما الحنفية فلا قصاص عندهم على الجارح بحال، سواء أكان التداوي بالسم عمداً أم كان خطأ، لأن الأصل عندهم أنه لايقتل شريك من لا قصاص عليه كما تقدم‏.‏

كذلك لا قصاص على الجارح عند المالكية قولاً واحداً إذا تداوى المقتول بالسم خطأ، بناء على أصلهم أنه ‏(‏لا يقتل شريك مخطئ‏)‏ وقد تقدم أن في شريك جارح نفسه عمداً عند المالكية قولين‏.‏

الآثار المترتّبة على الانتحار

أوّلاً‏:‏ إيمان أو كفر المنتحر‏:‏

25 - ورد في الأحاديث الصّحيحة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدلّ ظاهره على خلود قاتل نفسه في النّار وحرمانه من الجنّة‏.‏ منها ما رواه الشّيخان عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نارٍ جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً» ومنها حديث جندبٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كان برجلٍ جراح فقتل نفسه، فقال اللّه‏:‏ بدرني عبدي نفسه، حرّمت عليه الجنّة»

وظاهر هذين الحديثين وغيرهما من الأحاديث يدلّ على كفر المنتحر، لأنّ الخلود في النّار والحرمان من الجنّة جزاء الكفّار عند أهل السّنّة والجماعة‏.‏ لكنّه لم يقل بكفر المنتحر أحد من علماء المذاهب الأربعة، لأنّ الكفر هو الإنكار والخروج عن دين الإسلام، وصاحب الكبيرة - غير الشّرك - لا يخرج عن الإسلام عند أهل السّنّة والجماعة، وقد صحّت الرّوايات أنّ العصاة من أهل التّوحيد يعذّبون ثمّ يخرجون‏.‏ بل قد صرّح الفقهاء في أكثر من موضعٍ بأنّ المنتحر لا يخرج عن الإسلام، ولهذا قالوا بغسله والصّلاة عليه كما سيأتي، والكافر لا يصلّى عليه إجماعاً‏.‏ ذكر في الفتاوى الخانيّة‏:‏ المسلم إذا قتل نفسه في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ يغسّل ويصلّى عليه‏.‏

وهذا صريح في أنّ قاتل نفسه لا يخرج عن الإسلام، كما وصفه الزّيلعيّ وابن عابدين بأنّه فاسق كسائر فسّاق المسلمين كذلك نصوص الشّافعيّة تدلّ على عدم كفر المنتحر‏.‏

وما جاء في الأحاديث من خلود المنتحر في النّار محمول على من استعجل الموت بالانتحار، واستحلّه، فإنّه باستحلاله يصير كافراً، لأنّ مستحلّ الكبيرة كافر عند أهل السّنّة، والكافر مخلّد في النّار بلا ريبٍ، وقيل‏:‏ ورد مورد الزّجر والتّغليظ وحقيقته غير مرادةٍ‏.‏ ويقول ابن عابدين في قبول توبته‏:‏ القول بأنّه لا توبة له مشكل على قواعد أهل السّنّة والجماعة، لإطلاق النّصوص في قبول توبة العاصي بل التّوبة من الكافر مقبولة قطعاً، وهو أعظم وزراً‏.‏ ولعلّ‏.‏ المراد ما إذا تاب حالة اليأس، كما إذا فعل بنفسه ما لا يعيش معه عادة، كجرحٍ مزهقٍ في ساعته، وإلقائه نفسه في بحرٍ أو نارٍ فتاب‏.‏

أمّا لو جرح نفسه فبقي حيّاً أيّاماً مثلاً ثمّ تاب ومات، فينبغي الجزم بقبول توبته‏.‏

وممّا يدلّ على أنّ المنتحر تحت المشيئة، وليس مقطوعاً بخلوده في النّار، حديث جابرٍ أنّه قال‏:‏ «لمّا هاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطّفيل بن عمرٍو، وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة، فمرض فجزع، فأخذ مشاقص، فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتّى مات، فرآه الطّفيل بن عمرٍو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطّياً يديه، فقال له‏:‏ ما صنع بك ربّك ‏؟‏ قال‏:‏ غفر لي بهجرتي إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ مالي أراك مغطّياً يديك ‏؟‏ قال‏:‏ قيل لي‏:‏ لن نصلح منك ما أفسدت، فقصّها الطّفيل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَلِيَدَيْه فاغفر» وهذا كلّه يدلّ على أنّ المنتحر لا يخرج بذلك عن كونه مسلماً، لكنّه ارتكب كبيرةً فيسمّي فاسقاً‏.‏

ثانياً‏:‏ جزاء المنتحر‏:‏

26 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا لم يمت من حاول الانتحار عوقب على محاولته الانتحار، لأنّه أقدم على قتل النّفس الّذي يعتبر من الكبائر‏.‏

كذلك لا دية عليه سواء أكان الانتحار عمداً أم خطأً عند جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ورواية عن الحنابلة‏)‏ لأنّ العقوبة تسقط بالموت، ولأنّ عامر بن الأكوع بارز مرحباً يوم خيبر، فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيه بديةٍ ولا غيرها، ولو وجبت لبيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولأنّه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره، ولأنّ وجوب الدّية على العاقلة في الخطأ إنّما كان مواساةً للجاني وتخفيفاً عنه، وليس على الجاني هاهنا شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة، فلا وجه لإيجابه‏.‏وفي روايةٍ عند الحنابلة أنّ على عاقلة المنتحر خطأً ديته لورثته، وبه قال الأوزاعيّ وإسحاق، لأنّها جناية خطأٍ، فكان عقلها ‏(‏ديتها‏)‏ على عاقلته كما لو قتل غيره‏.‏ فعلى هذه الرّواية إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء، لأنّه لا يجب للإنسان شيء على نفسه، وإن كان بعضهم وارثاً سقط عنه ما يقابل نصيبه، وعليه ما زاد على نصيبه، وله ما بقي إن‏.‏ كان نصيبه من الدّين أكثر من الواجب عليه

27 - اختلفوا في وجوب الكفّارة، فقال الشّافعيّة في وجهٍ - وهو رأي الحنابلة في قتل الخطأ - تلزم الكفّارة من سوى الحربيّ مميّزاً كان أم لا، بقتل كلّ آدميٍّ من مسلمٍ - ولو في دار الحرب - وذمّيٍّ وجنينٍ وعبدٍ ونفسه عمداً أو خطأً‏.‏ هكذا عمّموا في وجوب الكفّارة، وتخرج من تركة المنتحر في العمد والخطأ‏.‏ واستدلّوا بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ ودية مسلّمة إلى أهله‏}‏ ولأنّه آدميّ مقتول خطأً، فوجبت الكفّارة على قاتله كما لو قتله غيره‏.‏

وقال الحنفيّة والمالكيّة وهو وجه عند الشّافعيّة‏:‏ لا كفّارة على قاتل نفسه خطأً أو عمداً‏.‏ وهذا هو قول الحنابلة في العمد، لسقوط صلاحيّته للخطاب بموته، كما تسقط ديته عن العاقلة لورثته‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ هذا أقرب إلى الصّواب إن شاء اللّه، فإنّ عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأً ولم يأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه بكفّارةٍ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأً‏}‏ إنّما أريد به إذا قتل غيره، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودية مسلّمة إلى أهله‏}‏ وقاتل نفسه لا تجب فيه دية‏.‏ كذلك ردّ المالكيّة وجوب الكفّارة بدليل أنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏}‏ مخرج قاتل نفسه، لامتناع تصوّر هذا الجزء من الكفّارة، وإذا بطل الجزء بطل الكلّ‏.‏

ثالثاً‏:‏ غسل المنتحر‏:‏

28 - من قتل نفسه خطأً، كأن صوّب سيفه إلى عدوّه ليضربه به فأخطأ وأصاب نفسه ومات، غسّل وصلّي عليه بلا خلافٍ، كما عدّه بعضهم من الشّهداء‏.‏

وكذلك المنتحر عمداً، لأنّه لا يخرج عن الإسلام بسبب قتله نفسه عند الفقهاء كما سبق، ولهذا صرّحوا بوجوب غسله كغيره من المسلمين وادّعى الرّمليّ الإجماع عليه حيث قال‏:‏ وغسله وتكفينه والصّلاة عليه وحمله ودفنه فروض كفايةٍ إجماعاً، للأمر به في الأخبار الصّحيحة، سواء في ذلك قاتل نفسه وغيره‏.‏

رابعاً‏:‏ الصّلاة على المنتحر‏:‏

29 - يرى جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏)‏ أنّ المنتحر يصلّى عليه، لأنّه لم يخرج عن الإسلام بسبب قتله نفسه كما تقدّم، ولما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «صلّوا على من قال لا إله إلاّ اللّه» ولأنّ الغسل والصّلاة متلازمان عند المالكيّة، فكلّ من وجب غسله وجبت الصّلاة عليه، وكلّ من لم يجب غسله لا تجب الصّلاة عليه‏.‏ وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعيّ - وهو رأي أبي يوسف من الحنفيّة، وصحّحه بعضهم - لا يصلّى على قاتل نفسه بحالٍ، لما روى جابر بن سمرة‏:‏ «أنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه» ولما روى أبو داود «أنّ رجلاً انطلق إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره عن رجلٍ قد مات قال‏:‏ وما يدريك ‏؟‏ قال‏:‏ رأيته ينحر نفسه، قال‏:‏ أنت رأيته ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏.‏ إذن لا أصلّي عليه»‏.‏ وعلّله بعضهم بأنّ المنتحر لا توبة له فلا يصلّى عليه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يصلّي الإمام على من قتل نفسه عمداً، ويصلّي عليه سائر النّاس‏.‏ أمّا عدم صلاة الإمام على المنتحر فلحديث جابر بن سمرة السّابق ذكره أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ على قاتل نفسه، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الإمام، فألحق به غيره من الأئمّة‏.‏

وأمّا صلاة سائر النّاس عليه، فلما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه حين امتنع عن الصّلاة على قاتل نفسه لم ينه عن الصّلاة عليه‏.‏ ولا يلزم من ترك صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ترك صلاة غيره، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في بدء الإسلام لا يصلّي على من عليه دين لا وفاء له، ويأمرهم بالصّلاة عليه‏.‏ كما يدلّ على هذا التّخصيص ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «أمّا أنا فلا أصلّي عليه»

وذكر في بعض كتب الحنابلة أنّ عدم صلاة الإمام على المنتحر أمر مستحسن، لكنّه لو صلّى عليه فلا بأس‏.‏ فقد ذكر في الإقناع‏:‏ ولا يسنّ للإمام الأعظم وإمام كلّ قريةٍ - وهو واليها في القضاء - الصّلاة على قاتل نفسه عمداً، ولو صلّى عليه فلا بأس‏.‏

خامساً‏:‏ تكفين المنتحر ودفنه في مقابر المسلمين‏:‏

30 - اتّفق الفقهاء على وجوب تكفين الميّت المسلم ودفنه، وصرّحوا بأنّهما من فروض الكفاية كالصّلاة عليه وغسله، ومن ذلك المنتحر، لأنّ المنتحر لا يخرج عن الإسلام بارتكابه قتل نفسه كما مرّ‏.‏